جسر النهاية




النبأ

 

     كلما ابتعدت القصيدة عن مجالها المغناطيسي   ، أصبحت عرضة للتفكك   ، وأصبح بالإمكان أن يتحايل النقد على أبوابها   ، ففي انكشاف غموضها عرضة للتأويل   ، وعرضة لانحسار مغزاها

      لم تكن مفرداتها في الإطار الجمعي   ، بحاجة لمواجهة جديدة مع العابثين بأمر اللغة   ، وتسطيح مقتنياتها   ، ولكنها وقعت في فخّ الدفاع عن بؤرتها   ،

ولم تكن هي بحاجة لهذا الدفاع   ، ولكن كان بمقدورها

أن توجّه القاعدة النحوية نحو فضاء الابتكار والإسناد

دخلت في حيّز الدفاع عن قصيدة النثر   ، واستخدمت كلّ عناصرها المفتوحة على نافذة الرمز   ، فانشغلت بالمدى المكاني   ، انكشفت أعصابها للرياح   ، ولم ينه سعيد بن السراج بعد مهمته الجديد في حشد الواقع الجديد   ، ولم تفتح دراقة بعد سوى نافذتين لصوت القصيدة   ، ولم تأخذ قصيدة النثر أبعادها الحقيقية على خارطة الخطاب الشعري

   انتشر الجراد على أشجارها المتخيّلة من كلّ جانب وبدأ القمح يسلك طريقاً رماديّا هائماً بين قابيل وهابيل وبدأ الغراب يحفر ما يشاء من الحفر   ، وبدأت دابة الأرض تأكلُ منسأة المفردات   ، ولم يعد للقصيدة غير النبأ

  

القبائل


   تكوّمت الأحجار الكريمة على باب بيت القصيدة  ، وأصبحت مطمعاً لكلّ من تقطّعت به سُبُل الكلام  ،حتى اللذين تعرّبوا واستعربوا  ،وقطنوا متاح مسكنها الفضي  لم تعد المحارات تسترها من الموج والحوامات  ،وخبب السُّرى   ،الملصقات التي أثّثت شعاراتها بالطوفان  ،انقلبت إلى عسس ليليّ ينحدر من فوهة الرصاص إلى عناصرها   ،الكيانات الداخلية التي فرضت سطوتها على عقلية القصيدة   ، جرفتها باتجاه سقف البلاغة الذي لا يبعد كثيراً عن سقف الاستعارة والمجاز.

  لم يعد المجاز مقبولاً  ، ولم تعد الاستعارة تأخذ من عباءة الأعرج غير وشايتها بالليل  ، فقط هي البلاغة في القصب الحريري الموشى على عباءة الكاشف

انطلقت القبائل إلى فرضية العدم في العالم الافتراضي واخترقت صلابة الحديد بالحديد   ، اجتمعت   ، وانحازت 

_ لها أن تدوّن معطياتها ضمن ديوان العرب

_ وأن تلقي بالنتائج تحت بساط الإمكان

_ وللوصيِّ أن يقبض على نفحة الرماد في الرماد

_ وله أن يقصّ بعضاً من شريط الصور

_ وله .. وله ..

     ولهُ أن ينوب عن القبائل باكتساح الغيم  ،وأن يروّض القصيدة على الدخول في حظيرة التاريخ  ، وأن يبسّط مفرداتها لكي يكون المتلقي أكثر طمأنينة وله أن يسدّ الفراغ الناتج عن مصاهرة النثر  ،باستحداث قصيدة بصرية  ،تقبل الدخول في مربع الكلمات المتقاطعة  ، وله أن يمنح درّاقة بيتاً قابلاً للحراسة في إطاره الإسمنتي والحديدي في كأس نبيذ أنوثة الحياة   ، وله أن يستأجر طفلتيْ أرجوانه عشر سنين

 

أنفاس القصيدة

 

    بعد هذا الخلاء المادي المتمثّل بموت الواصف في جنوب القصيدة  ، والخلاء المعنوي المتمثّل بموت سلوم في ميدان القصيدة  ، ووصول أبو المنقذ في غرفته الحديدية إلى مهاد الجذب في الحارة السفلية ومرض أبي الوداد تحت تأثير بنج الديون  ، واغتيال مروان الكاشف  ، وسعيد الطيري على يد ثابت بن عمر  ، وتعين منعم الطحاوي مديراً تنفيذيّاً وقاضياً في محكمة اللجوء   ، وزواج سعيد بن السراج للمرة الثالثة من أنوثة الحياة   ، واقتفاء الطبيب سليم بن الكاشف أثر الاختصاص   ،وجبروت الخاتم في إصبع دراقة في قلب مشكاة الداخل   ، وعصابة الخلاف بين رجب وسليم العنزي على نبرة القصيدة وهيكلها الجديد  ، وذهاب أرجوانه لحضور عرس ابنتيها في حارة الوصيّ   ، والبحث عن مقايضة الصورة الشعرية المتخيّلة بالصور الواقعية

    لم يعد للمفردات سوى تقطير ماء القصيدة تحت تأثير الأبعاد اللغوية   ، أو الانسحاب إلى التقنية الجديدة   ،

 ولم يعد لرجب غير أملاءات الناقد ألتفكيكي والنزول بالمستوى الفني إلى صيغ التداول الجمعي الذي تفرضه معطيات القصيدة الحديثة  ، ليبقى شاهداً على أثر التحوّل المزمع تجسيده في قنوات الصوت والتلقي

    جلبة الحصى في الطرقات الترابية ما عادت تستجلب الطيور من أعشاشها  ، خاصة بعد أن فقد أبو الوداد عكازه الذي كان يهشُّ به على عبثية الرؤية  ،

   وبعد أن أصبح منعم الطحاوي قاضياً في أمر الغرف غير أنّ حراكها المشمول بأشعة مشكاة الداخل  لم يتوقف   ، فغدت الجدران فضاء للكلام   ، والسماء متاحاً آخر للولوج إلى طاقة الرؤيا   ، والغرف صفاً دراسيّاً للتأويل والبكاء على وهج القصيدة   ، وانتشارها في مساحة الركاكة

 

                        المنبر

 

   والتحم القمر  ،وسارعت الديوكُ إلى منصة التتويج وبدت جدارية الكلام تأخذ طابعها المنحوت بلون الأرجوان  ،وارتفعت أسرة القصيدة المنبرية  ،وعلتْ شاشة الخطاب  ،وانفتح البحر المتوسط على جلال المفردات.

 هدأت جلبة الممر الضيّق الموصل إلى مشكاة الداخل  ونما زعفران الخطى فوق رمال السكينة   ، وانبعث أشقاها من رماده القديم.

 انكشفت الشوارع عن بكائها   ، وقادها الخريف إلى نواة القمح المندسّة في شقوق الشجر   ، ولا لواقح من

ريحٍ شرقية أو غربية.

   خطتْ ماكينات الرجولة خطوتها المكهربة   ، واستعدت الذيول لاستقبال المفردات   ، بعد أن فقدت ميكانيكية العمل التركيبي.

   جفلت مشكاة الداخل من رؤيا الحمام   ، فانكشف زجاج القبائل عن ناي الوحدة   ،

   اقتربت الزلزلة   ، والتحم القمر

   وأخذ رجب قصيدته وما تبقى من مفردات وصور  أمامه مشكاة الداخل  ،وخلفه الرماد  ،ومعه ذاكرة مختزلة لفضاءات متخيّلة عن كهف القطا والضباع والحوريات  ،وحوله أخوة يوسف  ،وتحيط به أسماك القرش والموج وجلبة في عرض البحر أحدثها طوفان نوح  ،لم يعد معه سوى خطاب القصيدة   ،

اقتربت الزلزلة  ،والتحم القمر

  تذكّر رجب قميصه المُحلّى بمسك الأرجوان  ، تذكّر خالد بن سعيد  ، والأعرج  ، وأبا المنقذ  ، والواصف ٍ

 

وسلوم   ، وسلمان أبا الحكم   ، وأرجوانه   ، ودراقة   ، وتذكّر أنوثة الحياة   ، ولكن في أنوثة الزمن لم يعد أمامه سوى أن يلقي قصيدته في عرض البحر   ، ولم يعد لذاكرة الكهوف سوى الحجارة   ، ومقام النهوند.

 

الحجارة


  من الأحجار ما يتشقق منه الماء  ، ومنها ما يهبط من خشية الله  ، ومنها ما هو كائن في كينونته المتحركة  ، ومنها ما هو ناطق في ثياب الخفاء

  بعد أن انتشرت القصيدة   ، أو زحزحتْ عن مجالها المغناطيسي   ، وبعد أن تخثّرتْ تربتها   ، وتجسّمتْ في لوحةٍ نسيّ الرسام أن يصبغ لونها بدم الزعفران   ، اتخذتْ باباً آخر غير الذي كان   ، وأضاءت مشكاة الداخل

_ من هنا من ترابي الذي لا حفر فيه   ، ومن تجذّره في صلصالي   ، أعيد كتابة نفْسي   ، من هذا الجوديُّ

الذي يحمل ثنائيتي   ، جسدي   ، وروحي   ، أبدأ تلاوة

نبوءة كفاح ابن السراج الفلسطيني

   تعبئة نبرة مشكاة الداخل كانت من مفردات رجب الجديدة  التي أصبحت أوتارها قادرة على مجابهة النقد ألتفكيكي   ، من خلال استحداث سيمياء أكثر التصاقاً بالغلاف   ، وابتكار جملة من الصور المضافة إلى المضاف إليه

   لم تعد القصيدة تصحب النبرة المهرجانية للخطاب  بل دخلت في أعماق آليات القول والفعل  ،قول المعنى الكلامي  ،وفعل الخروج بالأسطورة من زمانها ومكانها وبلا أقنعة  ،إلى ميادين المواجهة مع النقد  ،بعيداً عن ضغط الجوار وجوار الجوار الإستعاري

_ اتركوا شالها

_ اتركوا زعفران حضورها

_ اتركوا دمها ولحمها ومنبع أسرارها

_ اتركوا مفرداتها تحيك صورها

_ اتركوا إيقاعها في مائها

_ اتركوا ذاكرتها مفتوحةً على الجبال والوديان والسهول

_ اتركوها تسيل دماً للحياة

_ اتركوا شموعها لأشجارها

_ اتركوا رياحها للصفيح

_ اتركوها لأحراش القسام

_ اتركوا رجالها نساءها أطفالها

_ اتركوا حضورها في قوتها وضعفها   ،

واقرؤوا حنظلة   ، وانسحبوا

_ المفردات هي تجانس الطبيعة يا رجب  ،

_  والحجارة هيَ الحراك الجديد   ، وموئل الحليب في الأصابع

_ والموت والحياة هما توتر الأعصاب عند صورة غامضة وواضحة في قراءة القصيدة.


إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x