ديوان أوجاع في منتجع الهم

 

في الطريق إلى الإشارة

" متعب هذا السفر
والمسافات بعيدة 
وأنا أبحث عن صدر أغني
فيه موالاً
وأقتات قصيدة "(1)
 
    ثمة إشارة واضحة يستهل بها الشاعر تجربته الأولى، لجهة اتصالها بالموروث الدلالي الذي ينبغي أن تقوم عليه ، فمن جهة تتراءى له قوة الحضور المستند على آليات البحث عن أرضية صلبة يقف عليها ، في الطريق إلى تأسيس " الأنا " الشاعرة ، ومن جهة أخرى الإفراج عن البنية الداخلية التي تتوقف عليها قوة الحضور رغم المراحل الغيبيّة التي تخصّ التجربة ، في مجمل مراحلها ، وكأنه بذلك يشير منذ الإطلالة الأولى لأهمية تمازج " الأنا " الشاعرة بمحيطها ومتخيّلها .
 
   وإذا كان هذا التأسيس المتخيّل منذ الإطلالة الأولى يحتاج إلى ثني أو تسارع الزمن ، فإنه بحاجة كما يرى ، إلى تفريد التفاصيل عبر التمترس خلف مقاماتها غير المكشوفة ، والتي يستدلّ عليها من خلال التقاط عناصر التكوين الدلالي لكل محطة من محطات البحث
 
" في المحطات البعيدة
يتعرّى
زنبق الحقل وتأتي
حلوة العينين في الغيم المضاء
مثل موال من العشق
وحلم
واشتهاء
في ضباب الليل تأتي
في رحاب المتعة _ الذكرى _
وفي نهد المساء
مثل ينبوع من الدفء
فتمتدّ ذراعي
كذب الحلم
فما زالت بعيدة "(2)
  
    إذن تتقزم المسافات أمام هذا الزخم المعنوي ، ولكنه في الوجود المادي يبقى يشكّل مادة خام ، تترتب عليها حالة مفرغة من التكهنات ، لذلك تسعى التجربة في معمارها الأوّل ، إلى تكثيف بؤر الإشارات ، سعياً وراء حصر المدلول الشعري ، الذي ينطوي تحته الحراك اللغوي ، من هنا تبدأ المحطة الأولى بالكشف عن رحى هذا الحراك في المنظور المستقبلي ، بدءاً من ثني الزمن ، وليس انتهاء بتفريد التفاصيل ،
 
" آخر الأخبار تحكي
_ والتفاصيل قليلة _
عن قتيلٍ
وقتيلة
عانقا صوت الرصاص
ومالا
فنما الزهر على وجه الخميلة
أرجواناً
دمويّ اللون
ورديّ الجديلة "(3)
 
    وكأنّ هذا الإنحات التقريبي لمدلولات الزمن ، متوقف على ربط الأنا الشاعرة بالمحيط ، ولكن عبر مستويات تصويرية تسعى إلى تقريب الواقع الخطابي من المتخيّل الشعري في الطريق إلى الإشارة
 
" تائه هذا الطريق
لا يؤدي للمدينة
ودمي يمتد في كل حريق
وعلى كفي نما شوك
وفي صدري حرائق
تائه هذا الطريق
وأنا لست أوافق "(4)
 
   وفي فضاء هذه المسيرة التصويرية ، يتكشف الواقع الخطابي عن المغايرة التي تتأمّلها حيوية الإشارة ، لتتحدد منازل التجربة ، في إطارين لا ثالث لهما ، يتمثل الإطار الأول بنقطة الانطلاق التي يحددها الطريق ، وفق ما هو عليه ، وهو ما يرفضه الشاعر ، سعياً وراء المتخيّل الفعلي ، الذي سوف يبرز بوضوح في محطات التجربة الأخرى ، وهو ما تقرره آلية تعميق الأنا الشاعرة التي تستقطب المؤثرات ولا تدخلها
 
" كانت اللحظة قنديلاً
وكان الوعد شوكاً
والفتى يسرع في الخطو
ويمتدّ مع الريح إلى كلّ اتجاه
كان وجه الأرض مكدوداً
ولون الشمس أغبر
حينما استلّ من التابوت خنجر
وتوارى "(5)
 
  هكذا تتكثف اللحظات القادمة ، عبر وسائل الاتصال ، إذ أن الأنا تشرع في تحديد مساهماتها الكونية ، ومع أن الرؤية شبه ضبابية ، إلا أن هذه المساهمات ، تخترق في مساءلاتها الحدود ، قفزاً إلى الأنا الجمعية التي تتمحور في ثلاث نقاط ، الوجود ، الفناء ، البعث ، وجود الذات تحت مؤثرات الداخل والخارج ، وفناء المحيط لحظة الانصهار المادي ، وبعث الذات في فضاء المتخيّل .
 
" أغادرك الآن
منقوعة الوجه
في صدأ السنوات الرديئة
وفي بحر عينيك نجم يدور
على شاطىء الفرح المستحيل
فلا يسترد خطاه المضيئة "(6)
 
   إن هكذا إشارة واضحة لعقلنة الحاضر تبدو مفتاحاً للحضور الدافع ، الذي تتمحور حوله الذات في اقتناصها لكلّ الأقانيم المفتوحة على التجربة ، تجربة اتساع حقل الدلالات ، وإذا كانت هذه الأقانيم تتجاذبها شعرية الحدث ، فإنها تمضي بعيداً في الفضاء المتخيّل ، وفق شروط تحددها بنية التفاصيل التي يستردّ وعيها الشاعر من مترادف اللغة ، بناءً على ما فيها من مقوّمات تُستقى تحت تأثير المُعطى الشعري
 
" وختاماً أيها الوجه الملفّع
إن في قلبي نداء لست تسمع
هذه الشمس التي أخفيت وجهيها ستطلع
سوف تطلع
ذات يوم
سوف تطلع"(7)
 
   إن مادة الإشارة الخام في كفّة التجربة الأولى للنهوض بأعباء شؤون المتخيّل ، ترقم العملية الشعرية برمّتها عبر وسيلة إفراد الإصبع ، لتفتح باب المسمّيات أمام اندغام الداخل \ الخطاب الشعري \ والخارج \ الخطاب الواقعي \

 

إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x