حفيد الجن / الأثر التصويري للذات



  في تناول النصّ الجزئي، الجزء الخاص بالتصوير، تتمدَّد المدلولات المعرفية باتجاه كشف العناصر الخاضعة للبصيرة، عبر التماسها للأطياف الورقية، لتشكل في السّرد الشعري سلّماً وصفيّاً يرقى بهِ الذوق النفسي إلى مرتبة الحلول، حلول الصورة الداخلة في بنية اللغة ومنجزها الشكلي مع الدلالة الخارجة من تمدد العنصر الدلالي.
  بمثل هذه الإيقاعية تتقدّم قصائد الشاعر د. راشد عيسى في ديوانه " حفيد الجنِّ "من المدلول المعرفي الذي يتسنّى للذات، من خلال انتقالها من حيّز مكاني إلى سعة زمنيّة، لتبقى صلة المتخيّل التكويني غير منقطعة عن واقع المدلول اللفظي، وهي بذلك تنشد في واقعها الجمالي إمكانية تحميل الذات طاقة المتغيّر النفسي.
في صبح الرابع من شهر حزيران
عام الواحد والخمسين
من منتصف القرن العشرين
فوق ذراع جبليّ يمتدّ
كنمر أسطوري
كان أبي يجمع حطباً
مع أمي الحبلى بي
صاحت أمي وهي تزمّ الحزمة
فوق الرأس
جاء مخاضي.
   ينطلق السّلّم الوصفي في قصائد " حفيد الجنّ" من  هذه النقطة، نقطة التقاء الإضاءة بالظلّ، والتقاء الأثر بالمحمول الزمني الذي تتركه مثل هذه التفاعلات الوصفية، حيث تتماهى اللغة مع الطيف الناتج عن خلاصة التصوير، وتقدّمه كمادة لاصقة تستقطب البؤر الشعرية وما تحملهُ من إمكانات.
وكبرت قليلاً
صار حذائي قطعة خيش
قدّتها أمي من طرف الخيمة
في الأغلب كنت أقضّي
نصف اليوم
أقلع شوكاً من قدميّ
ومن دمع العينين
وإذا جاء الفصل الشتوي
أتناقز في إلى ركبي
أتركني في الوحل أباكيني
ثم أوكّل ظلي أن يرجع
للبيت لكي لا يسأل عني
مطراق أبي.
  إذن تفترض العملية " عملية التناسخ الصّوري "، التي تقودها واجهة الوصف الشعري، جملة من الاقتطاعات، لتثبيت ركيزة التحوّل من واجهة مقروءة إلى واجهة متحرّكة بحسب قوّة الانزياح الذي تحدثهُ وشيجة القربى بين فعالية الأثر، وامتداده الزمني، وتشكل هذه الاقتطاعات في مجملها بنية التقاطع الزمني الدلالي الذي يبدأ من حافة الصفر " اللحظة "، ومن هذه الاقتطاعات ما يمكن لنا أن نطلق عليه الرؤية المتأمّل المسبوقة بفعل تأثيري ينتج عن التناسخ الصّوري.
عاش مثلي
مشرّداً في المراعي
ناطقاً باسمه وباسم التياعي
يشرب اللحن من فم الجن حتى
يبطل السمّ في نوايا الأفاعي
يعزف الماء للقطيع
نهاراً
ومساء يردّ حقد الضياع.
  كما وتقدّم الذات في مثل هذه المساحات المرهونة خامة الأثر، فنحن إذ نقرأ الإيقاع التصويري من زاوية الإمداد الذهني، ونقرُّ بوجوده سلفاً غير قابل للانقطاع، فإننا نحاول بذلك أن نستبق الأحداث، وبوصلة هذا الاستباق ما يوفّرهُ الأثر من نتاج محمول على الذات، فالأثر الوصفي هو ما أن ينتجهُ السلّم الوصفي من اقتطاعات تتبنى أطياف السردي الخاضعة للمنتج الحسّي لمفاصل الزمن.
مثل كل الأجنة
كان لي بين أحشاء
أمي سرير على شكل جنّة
عندما ولدتني رأيت
سريري ما بين نبعين
في صدرها
قلت هذي مرابع روحي إذن
وهنا سوف أحيا
وسوف أموت هنا.
  إن مثل هذه الانقلابات للأثر الوصفي تستند في مجملها على تداخل العناصر، " حيّة كانت أم ساكنة "، تضيف ما تراه واقعاً ومؤثراً ولو لم يكن من خامةٍ دلاليةٍ واحدة، المهم في المحصلة هو أن تتوافر الطمأنينة للذات.
كل ضوء من غير روحي
فاهي
يتعدى
ولا يثير انتباهي
مكتف بي
أحاول الوهم وحدي
طالع شرق دمعتي
وانشداهي.
  ويبقى الأثر الوصفي في السياق اللغوي المنتج من تداخل العناصر الحيّة والساكنة، يتجه في بنية أطياف التصوير، إلى نقل أكبر قدرٍ من منتج الذات المتخيِّلة، وإخفائها بعد أن يستتب لها المقام، مقام النصّ المتّجه إلى المساحات المرهونة في السرد الشعري، بعيداً عن طرح الأنا الشاعرة وتدخلها في المفاصل الثابتة في النصّ، وما تنتج الذات من انفعالات.   
كفيل بجرحي
بحبة قمحي
ولا أستجير الذين ذبحت
لهم ناقتي كي يكونوا
كراما
وأنزلتهم بيت قلبي
مقاماً...مقاما
فهدّوا سياجي الذي كان
ظلاً لهم وتواصوا بذبحي.
إن مثل هذه الانفعالات التي تتقمّصها الجمل الشعرية، هي نتاج الحركة الفسيولوجية للنص الشعري، النصّ الذي يتمدد وفق استحضاره للمعنى الدلالي من وراء قلب المعادلة الموقوفة على التجنيس، فثمة انقلاب يحدث عند هذا الاستحضار، ولذا يسعى الشاعر إلى نقل الصورة من واقع إلى واقع، واقع يفرضه الانفعال اللحظي، وواقع تفرضه غواية التصوير وانزياحها السردي المباشر الذي يكشف عن أبعاد سيرة الكائن الشعرية وعلاقة هذه السيرة بالآخر..
فيا أيها الطيبون اللئام
حلال عليكم خداعي
وكسر ذراعي
وطي شراعي
وعتبي عليكم حرام
فلستم تهونون يوماً عليّ
وإن مزقتني الرماح
وإن أوجعتني السهام
فليس بقلبي سوى الحب سيف
وسيفي غصن ينام عليه الحمام.
ثمّة استفزاز لغوي ينقر على خامة المعنى، الاستفزاز الذي تعوّدنا عليه من لدن الشاعر في كثير من قصائده، وربما يشكل هذا نوعاً من الأسلوبية اللغوية التي انفرد بها في تشكيل المعنى وأضداده، واقترانهما مع المتخيّل، فالذات " ذات النص"، المتحكّم الفعلي بآليات الانفعال، فاللمس المادي خلاف اللمس الوجداني إذا جاز لنا أن نُدرج الصورة في باب الوجدان، وهي القوس الذي يقف في المنتصف بين الوهم والمتخيّل.
لهو الضبع لا يكتفي
أن يرى السيف منكسراً في يدك
هو يسعى ليضبع قلب غدك
ويفل ذراعك تلك التي
قد تحاول حمل العصا ذات صحو
وقد تغلبه
لهو الضبع يا سيدي
طبعه يغلبه.
إن الثيمة الكبرى التي يشتغل عليها البناء السردي الوصفي مقابل الانزياح الصوري الذي تحدثه مسير النصّ القابل للكشوف، هي ثيمة انتظار المفاصل الأساسية التي يستند عليها الشاعر في تقديم سيمفونية حياة، تبدأ من الولادة، وتنتهي بالحكمة، أو ثيمة التوحّد مع المتخيّل ثم الإتيان بما هو كائنٌ في عروق النصّ، أو كما يقول الشاعر:
عكست لي المرآة شخصاً غريباً
لم يكنّي بل كان شيئاً سوايا
قلت : إن المرآة
لا شكّ خانت
حين أخفت
خلف الزجاج صِبايا.
إن مثل هذه المنحيات التصويرية والوصفية التي أقام عليها الشاعر سيرته الشعرية، وألحقها بعائلة " الجنّ"، كما يشير عنوان المجموعة، ساهمت في بروز القيم الجمالية التي ينعكس عنها الفضاء الوسطي بين الوهم والمتخيّل، فالسيرة كما يبدو التي أنشأها الشاعر تحفل بالعديد من الوشائج التي تربط اللغة الخاضعة لمتغيرات الذات زمنياً ومكانياً، مع اللغة الخاضعة لمتغيرات الوجود وأثر هذا التغيّر على الذات، وهذا ما جعل من سيرة راشد الشعرية إضافة حقيقية لمفهوم السيرة التي تبحث عن الأثر بمختلف تجلياته.

إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x