الطنبر

 

  أبو الحكم هو الوحيد الذي يبيع نفط الكاز في صهريجه الصغير الطنبر الذي يجرّه إلى حصان أسود   ، في الحارة السفليّة   ، وأحياناً يسحبه الحصان إلى الحارة العلويّة   ، وهو المختار الذي يعرف كلّ شاردة وواردة في الحارة لطبيعة عمله المتحرّك   ، ونقاء سريرته   ، وأبو الحكم صديق الكاشف في البلاد التي لم تعد بلادهم   ، بعد أن أخذوا وشم اللجوء   ، وتلحّفوا برنين جرس العودة   ، وناموا على حلم " هاي البلاد مقرط العصا " لا ينفك من تذكير الكاشف بأيام الثورة القسامية .

 وأبو الحكم لا يُخْسِرُ الميزان   ، بل يُوْفي الكيل   ، رجلٌ عصاميٌّ منذ أن كان شاباً   ، كان يرى في الكاشف أيام الثورة  شاباً نرجسي المزاج   ، سريع الرحال   ، لا تقرُّ له بصيرة على فاكهة الحياة   ، متقلّب الأطوار   ، ولكنه جريء وشجاع ولا يهاب الموت   ، ولا يعرف الخوف

_ لماذا يا أبا الحكم تبقى هكذا بدون من يسندك على الكبر   ، اذهب وتزوّج   ، واحتفظ بعبلة كما تشاء   ، المهم أن تثار حولك جلبة الأطفال 

_ أنا راض بالقسمة يا أبا سليم   ، ثمّ أنه لا ينقص من حال ذكورتي وحياتي شيء   ، عبلة لا تترك واردة ولا شاردة في نفْس مخيّلتي   ، إلا وترسمها تحت خطى البرق

_ دعك من هذا الكلام   ، سأزوّجك من امرأة تصلبُ عودك   ، وتعمّر بيتك

_ يا أبا سليم من ثلاثين سنة وأنت لا تملَّ هذه الأسطوانة  ، وحتى في اللحظات التي كنت أراك فيها عندما تتسلّل إلى الحارة أيام الثورة  ، كنت تختلس الوقت لتكررها لي

_ أنا أريد مصلحتك يا رجل   ، ولا يمكن أن تجد امرأة مثل أرجوانه   ، ثمّ إذا لم ترزق منها بالأطفال  لديها طفلتان ستملئان عليك وعلى عبلة البيت

قال أبو الحكم بعصبية   ،

_ أرجوانه مخطوبة للمكوجي يا كاشف

_ مطلوبة مش مخطوبة   ، وهي ابنة حارتنا وأنت أولى من غيرك

  أحسّ أبو الحكم بأنّ أمراً ما يدور في خلد الكاشف لم يستطع أن يحدد أبجديته  ، لهذا بتر الحديث غاضباً

_ اسمع يا كاشف  ، هذه السيرة أرجو أن لا تفتحها لي بعد الآن  ، وإلا …

_ أنت حرّ  ، لكن أريدك أن تفكّر  ، وسترى أني أملك كلّ الحق في هذه الأسطوانة كما تسمّيها.

  منذ أربعين عاماً قضتها عبلة مع أبي الحكم   ، لم تذكر بأنّ يوماً ما دخل عليها مرتبكاً مثلما هو اليوم  حتى عندما توفى والده   ، دخل عليها بشوشاً ومداعباً  لم يكن يعكر صفوها   ، ربما شفقة عليها من عدم الإنجاب   ، وربما حبّاً وهو المرجح

_ ما الذي يشغلك يا أبا الحكم ؟

_ لا شيء يا امرأة

  من عادة عبلة عدم الإلحاح عليه  ، حتى في شؤون البيت  ، وكثيراً ما كان يقول لها : يا بنت الناس لماذا  لم تذكرينني ؟

  أعدّتْ له الحمام  ، والسروال الأبيض  ، وفيما بعد جهّزت الغداء  ، ولم تقل شيئاً سوى: يا الله باسم الله

      عبلة تعتبر الخطّ الأحمر في حياته  ، ولا يجوز لأحد أن يتعدى هذا الخيط  ، كانت هذه المفردات تبدو واضحة على نظراته  ، لهذا غمرتْ عبلة رأسها بين ذراعيه واكتفت بالبكاء.

  بيت المهندس الذي توفيت زوجته بعد أن وضعت ولده عدنان بدقائق أثر الحمّى كما قال الطبيب   ، يقع في وسط الحارة السفليّة   ، مكوّن من غرفتين وحمام غرفة يستخدمها للنوم مع ولده   ، والأخرى يستخدمها كمطبخ   ، لم يتزوّج   ، وفي محاولاته لالتقاط أنفاس دراقة   ، كان يسعى إلى اصطياد عصفورين بحجر   ، عصفور الزوجة  ،وعصفور الخيط السريّ للقصيدة إلا أنّ متاهات دراقة   ، وبريق لمعان الكاشف في ذاكرتها الأنثوية  ،أنوثة الحياة  ،جعلاه يغضّ النظر عن ممارسة المشي إلى ثكناتها النهارية والليلية .

  ورجب يقدّر أبا الحكم  ،لشهامته  ،ووفائه لزوجته رغم عدم الإنجاب  ،وحبه لأهل الحارة  ،وعدم استغلال الفقراء بتقيدهم بالمرهونات كما يفعل الكاشف والمهندس إذا ما زاره أبو الحكم  ،يعرف بأن شيئاً ما حدث في الحارة  ، لهذا يأتي إليه   ، لاستشارته   ، والمعلوم بأن المهندس صاحب فكر  ،وله القدرة على قراءة الأحداث وتفسيرها

_ يا أخي لا أعلم ما في باطن الكاشف   ، دائماً يضغط على أعصابي بسيرة الزواج   ، والآن يريد أن يزوّجني من أرجوانه

  ابتسم المهندس في محاولة لتهدئة أعصاب أبي الحكم

_ يا سيدي الزواج ليس حراماً أو عيباً

_ وأنت يا رجب " رجب اسم المهندس الذي تخفّى طيلة الوصوفات السابقة   ، لا لشيء   ، فقط لأن الرواية تعتمد النتائج قبل المعطيات "

_ يا أخي أنا أمزح معك  ، اسمع الكاشف لا يعيش إلا

على دولاب المشاكل  ، وكما يقول المثل " بدو عرس يرقص فيه "

_ لم أفهم   ، وضّح

_ يريد أن يخلق مشاكل بين الحارتين   ، ويرمي حجراً في مجرى النهر  ، لهذا اختار لك أرجوانه المخطوبة للمكوجي ابن السراج

 


إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x