الأرجوان

 


  في ضحى الأرجوان المعتّق   ، وقبل انتشار الشجر حول دائرة الأمكنة الضالعة بالتعرّجات  ،خرج المهندس رجب وعلى غير عادتهِ   ، مكتظاً بحشرجات الأمل أن تساق إليهِ المعطيات التي يبحث عنها   ، لتكون النتائج وفق ما تصوّره القصيدة التي احتار في مطلعها الرماديّ الغائب   ، خرج من الجامع الكبير متّكئاً هيبة اللغة   ، وحضور بنية الكلام في جزء القصيدة الأوّل .

الواصف هذا المتّحد مع واقعه الداخلي   ، والملتصق مع خيال الذات   ، والراضخ لشهوة النفس   ، والمستيقظ

على أسئلة الذئب والقميص   ، الرابض على شجر الأرصفة البري   ، هل يكون الحراك الأوّل لفضاء القصيدة   ، ومفتاحها النابض بثمار الزمن القادم   ، هواجس فاعلة تدور في مخيلة المهندس   ، هواجس ربما تحال إلى واقعٍ   ، هي ليست بالأمنيات   ، بل باقتناص حجر الأساس من أكثر المناطق صلابة وعبثية   ، فالواصف كما يصفه أهل الصفوة   ، عدميّ الملامح   ، لا يتبارى إلا مع نفسهِ   ، ولا يضبط إيقاع الزمن   ، أيامهُ سلسلة من الألغاز   ، فلا وقت إلا وقتهُ الموشوم بذاتية اللحظة   ، فكيف يكون الواصف يا رجب منارتك الأولى لسحب أشعة القصيدة من بنية اللغة إلى بنية التصوير والقبض على مهربات اللغة من دائرة الكلام   ، هو رهانك السابح في فضاء الخيال  فإما أن تربح الخيال وتحيله إلى صور واقعية   ، وإما أن تستنزل مطر الغيب يا رجب  ، وعندها ربما يصير ثوبك الصوفيّ منارة للتأمّل والحيرة في آن واحد.

  لم يكن وصفاً هذا الذي يحدث مع رجب كلما حاول الاقتراب من مساحة القصيدة وبنيتها  ،إذ أنه كثيراً ما يصطدم بخلوة الذاكرة الشعبية من مترادفات العمل الجمعي  ،أو العمل الذي يتسق مع هدير الريح   ، ومخلب الصقر في مجرى الكلام والعتمة.

 لم يكن وصفيّاً لهذا كلما حاورته القصيدة   ، اتخذ مكاناً قصيّا  بين الذات والذات   ، وبين الجمعي والجمعي   ، في محاولة لتقريب ذلك المتاح النفسي والحدسي لسكان الحارة السفليّة   ، كان يرى الوجوه تتقلب أمام المرايا   ، مرايا البقاء والعودة   ، بقاء الحسّ الفلسطيني مشحوناً بالشعارات والأمل   ، وعودة الروح إلى مجراها القدسي الذي يصبُّ في بحر الشمس .

  أربعة شوارع ترابية تفصل بين بيت رجب ومدارس الوكالة  ، وتستغرق دقائق معدودة من الوقت إلا أن مسيرة رجب كانت تأخذ ساعة من الزمن  ، جملة من الخيارات التي كانت تضطلع في ذاكرته  ، وهو في طريقه إلى المدرسة.

   أبو المنقذ الخيار التربوي الذي لا تستقيم حواس الحصص المدرسية  ، بدون توجيهاته  ، فرجب في إطار هذه التوجيهات  ، كان يعمد على التقاط الإشارات القادمة من أعماق التراث  ، وبثّها في نفوس الطلبة.

أبو الوداد الخيار اللفظي لجملة المسمّيات التي كانت تعتمل في الحارة   ، وفي هذا الإطار كان يعمد رجب على رسم مساحات التأمّل   ، لبثّ طاقة من المشاركة بينه وبين الطلبة   ، خطّان مستقيمان يجمعهما رجب في خطّ القول الأوّل للقصيدة

_ لماذا بكتْ الأندلس في العشاء الأخير ؟

_ لأن عبد الرحمن الداخل مال إلى جذع النخلة   ، ثم بكى

_ وهل تبكي الرجال ؟

_ نعم  ، عندما تستيقظ على حلم واقعي  ، وهي ما تزال في منامها

_ وهل هنالك حلم واقعي ؟

_  نعم   ،عندما ترى نفسك في مرآة غيرك

   الجمل التي يختارها رجب  ،في محاوراته مع الطلبة  كثيراً ما تشي بالإسقاط التناصّي  ،ومآل ذلك  ،خشية أن يندسّ في مفردات القصيدة  ،حرّاسُ الحارة العلويّة  وخاصةً عندما كان يسأله سلّوم أحد الطلبة المشاكسين _ والذي كان يرى فيه رجب الإيقاع المستتر في بحر القصيدة _  ، عن إمكانية تحرير الواقع من الحلم .

  الواصف وسلّوم هما المحرّك والدافع الرئيس لرجب وهما من المعطيات التي طالما بحث عنها  ،قبل موت سلطان الأعرج  ،وهما طرفيْ معادلة القصيدة  اللغة والتي يمثلها الواصف بتقلباته وعدم اكتراثه بما هو موجود  ،وانشغاله بالذات \ الخفاء \ وما هو حتمي وقابل للتحقق  ،والصورة التي يمثلها سلّوم بتحركاته بين الناس   ، وانشغاله بكل صغيرة وكبيرة في الحارة ونكرانه للذات \ الظهور \ وما هو قابل للإرادة


إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x