القصيدة
كلمة لها جُرْحٌ وقبل وبعد، ولها في أشعار أحمد الخطيب فعلُ اللغة الذي تعتوره
فتنة الإيقاع ودهشةُ التفاعيل.. ولها النوافذ مشرعة على الفتى الذي شقَّ الحصى في
القدرِ فأتته طائعةً راضية، ولها ندي الكَرْمِ البعيد البعيد، ولها قلبٌ دائم
النزف والجريان.
"قلبي نزيفُ الراح
في كأسٍ من الشعر المعتَّقِ
تحت داليةٍ أضاعوها/
وأي فتى أضاعوا
عصفورةٌ حملت جدائلها/
وماتوا".
ها هي الصورة في قصيدة الخطيب تحمل في عرجونها نَسْغَ الولادة،
تتكشف حيناً في المرايا لتعود فرساً جموحاً ما تلبثُ أَن تهدأ فوق مساحة القراءة
والتأويل.
هنا تبرز سمة أساسية للقصيدة القابلة للحياة.
"القصيدةُ رَمْزٌ/
إذا ما انفَرَدَت على الماءِ
تُفْرجُ عن عادياتِ المكان".
هنا تتشابك الحيواتُ جميعاً، الأرض زاخرةٌ بالماء، والخيول
كثيراً ما انتظرها الحالمون قريبة إذا ما اقتربنا من القصيدة ?الحياة- وتوق الذات
الطموحة للجمال..
وفي يوم قريب يشتَعِلُ الحاضرُ في عين الشاعر: الصفيحُ والخباء
والمنزل، وهي تمظهرات المخيم والبادية والمدينة، تصبحُ فهماً للسؤال عن المسيحِ
وقيامته المنتظرة...
وهنا تلتحمُ لحظةُ الشعْر بمثيلتها في الكشف ليكون الشارع على
مسافة قريبة من الهدهد:
"فعرفت مأمن حاجتي/
طير يهدهده الكلام".
إذن هذه قصيدةُ الخطيب تقتربُ من العناصر جميعها حدَّ التماس،
فهي بمثابة معدن جاذبٍ لعالم يتمثل في قِطْعةِ صوف كبيرة...
"قُلتُ تزنَّري يا ريحُ/
وانتصري على حَبْل النعامةِ/
قرِّبي مرمى القصيدة من قيامة روحنا".
و"روحنا" ليست من ضرورة الوزنِ وحسب، بل جاءت لتشير
إلى الشاعر في اشتباكِ الريح مع القصيدة، فهو يلح في أكثر من مقام كي
تَنْتَصرَ الحياةُ على الموت. إحساس الخطيب برسالة الكلمة تجعلهُ في سباق مع الفرس
أو في سرعة الفرس مع الزمن لقنص ما هو جميل من مفردات...
وهو يرجعنا إلى جدِّه الشاعر: الحارثُ بن عباد، وهو يطلبُ من
صديقيه أن يقربا حبل النعامة إليه ليدرك ثأر ابنه..
"قَرِّبا مربطَ النعامةِ مني
ليجير فداهُ عمي وخالي".
تواصل الكلمة فعلها برؤية جديدة، فالصورة رغم افتضاح أمرها تبقى
عديمة الشكل أمام الشعر أيضاً...
"الصورةُ فاضحةٌ
لا شكل لها/أو نحت،
تسأل تفاح الكلمات
إذا ما حَضَرَ الموتْ،
عن لغة الفقراء".
الشاعر الخطيب يبدأُ ولا ينتهي بالحديث عن أدواته الشعرية
المشكِّلة أبداً انسجاماً آخراً مع ذاته الشاعرة.
"لا ترهنوا قلمي
إنْ حوصِرَتْ لغةٌ
وغادرها نحو السريرة محموماً، ومتقداً".
فقلمُ الشاعرِ ماضٍ لغايته محموماً ومتقداً بسعي تتجلى فيه
معاني المثابرة والاجتهاد بسعيٍ يشبهُ سعي ذاك الرجل الذي جاء من أقصى المدينة
يسعى كما ورد في القرآن الكريم داعياً الناس إلى تصديق دعوة المرسلين، وفي
الصّمْتِ يَكْمُنُ الشعر ويورق بين جنبات المساء:
"يجيء من الصمتِ
يمشي
ويسعى
إلى عتباتِ الكلامْ
وينْفَطِرُ".
والماء في قداسته دائم التواطؤ مع الشعر لا يكف عن المضي في
تعرجات الحصى
"الْتَفَتَ الماءُ نحو كتابته
كَمْ أَنا مِثْلهُ أمشي
وأبتكرُ".
وللقطة في الطريق قصة وحكاية، فهي التي تدفعه أن يظَّل واقفاً،
مدركاً لحقيقة الشارع، حذراً من التعثر والانكفاء.
"كُنْ كالمرايا/
حين تَشْطَحُ قطَّةٌ في الفَجْر/
تَهْمزُ للطريق بأَن تراني واقفاً
لم أرتكبْ قَدراً من الممشى
ولم أحْفَلْ بماء السرِّ،
كنا كالقصيدة لا نفارقُ بعضنا
حرفاً
وإيقاعاً
ومنفى".
وفي مجرى آخر للكتابة، تتآخى القصيدة في عنفوانها مع الشاعر
وأخيه وتصبح (الحصيرة- القطيفة-الحلم)، مسرحاً لها ولقدرها المدهش في المنفى.
مرة أخرى نرى في القصيدة، كائناً آخر، ولبوساً أثيراً للريح.
"وهنا على ريش المكان/
وجدت قصائدي ويدي/
وقبرة معي".
وفي نص متشابه، تتحرك الأحلام في بوح الشاعر قبالة القتيل
والقتيلة، حرقة الشاعر في قصائده، في تسبيح واحد مع قتلى الحب والفراق:
"يسعى إلى جلب الخيال
وقد تأسى بالقتيل
وبالقتيلة".
يقدم الشاعر الخطيب مقترحاً في الجنون والنوم والمخيم والنجم
والماء ويشتق عالماً لا يخضع لجغرافيا المكان وما يمتد فيه من حواس.
فوعيه الضارب في القصيدة-الحياة، بات وعاءً ومن الماء إلى الماء
إلى كل ما هو جميل وعادل.
"أنا ما جننت
ولكن مثلي
إذا جن ضاقت به الأرض عن ساكنيها
وشيع باب المخيم قرب انكسار الطفولة
وبايع نجماً قريباً من الماء
لم يتخذ من بريد القرابة
نهراً من الأغنيات"
هكذا يجد الشعر ضالته في قصيدة الخطيب، ديدنه حقل من نور، وشغفه
فضاء من بنفسج:
"قل لي: في مداد العمر قنبلتان تنفجران
إن قفز الحمام عن السطوح".
والحمام في متناول السماء يطير طيراً، ولا يقفز قفزاً، إلا إذا
تعرض لرمية رام أو قنص عدو، وما دام الأمر هكذا فإن الشعر ما ذهب إليه وأراده، إنه
فعل احتجاج على سلام لم يتم ودعوة مشرعة للجميع، أن يكفوا عن استخدامه رمزاً
خداجاً:
"قلت لعلها تحمي على وجع أرابيوس
وأنا كمثل كلامه
سأقول للأرض: أخرجي ميقات نومك
من دمي".
الماضي البعيد الذي جاد بشاعر أم قيس (جدارا) أرابيوس هو نفسه
الزمن القريب الذي خرج منه الشاعر، واللذان يحملان في روحيهما، القلق والعشب
المعتق بالمرارة، إنه يقدم اعتماده للأرض كإنسان تتوجب حمايته والذود عنه وهما
الشبيهان بانتمائهما للحقيقة:
"ومنتمٍ لحقيقة أخرى
وملموماً إلى البازلت
تعمر منجزات الشرق بالقلق".
نقش أرابيوس كان التميمة التي أوحت إليه بتلك العبارة، أو قل
توق أصابعه ماسحاً في الليل فراغ المكان:
"أرابيوس
ببيت من الشعر علمتني
أن باب الحياة على برزخ الصمت
منفى!".
ويمضي الشاعر في تشخيص حالة أخرى للمصير الإنساني بكشفٍ عن
الموت وأسراره:
"والموت في حقيقته بلا أسرار
بيني
وبين الموت أسراره
مؤجلة
وطير عاشق
ويدان مسبلتان".
وهو الإنسان الذي يقرأ صورة سلفه، المنقوشة على الصواب، وهو ما
تبقى من الطوفان، عبر مسيرة البشرى على الأرض وشقائه متعدد الأوجه بين أردية
الغبار:
"ما أبطأ الطوفان
لكنه يمشي إلى حجر
ويقرأ سورة الألوان".
ذات حوار أدرك الشاعر اكتماله في الكتابة حين أفصح عن مكنون
روحه، في سرد قهوته المثيرة لجيشان عواطفه وشاهده حبل الغسيل، وما له في الذاكرة
الشعبية من مفردات الكشف والبياض. فكان التقاء الروح بشقيقتها الروح، في عروج
الحالمين وتورد الحرف في تضاعيف القصيدة شكلت كلها لوحة جديدة آزرت في صورها حقيقة
الإنسان وأحلامه:
"ولي نصفي
ووقع حمامة مرهونة
لجوار قهوتنا على حبل الغسيل
ولي أن أتبع السبب الأخيرَ
إذا عرجت إلى الرصيفِ
تكلمت أرواحنا
أرواحنا مأوى لعابرة السبيل".
لذا فهو ذو همة عالية لا يضعف، أن يقرأ على شريكة عمره حاجته
للكتابة، ولكن في الآن نفسه يعلن أنه ليس نقيضاً لأحد، وأن ما يقترفه من شعر هو
السحر بعينه:
"فالزمي حاجتي
وقبلة صمتي
والزمي غايتي
وأوتار عودي".
مخيلة الشعر لا تقف عند صورة أو أخرى، فالقصيدة كفيلة بانسجامها
الفذ، في تشكيل وإنتاج ما بطن وما ظهر من معنى ودلالة:
"من يقود الصدى في الغناء
إذا صير اللحن ناقته
في براري الكلام
ومن يحمل المعسرات
على فاقة
ثم ينسل صوف المدد؟
لا أحد".
النفي هنا قد يحمل حقيقة أخرى كون الشاعر الإنسان الوحيد، الذي
يعبأ بالنشيد في الوقت الذي يتعب فيه الآخرون، ويتهالك فيه عامة الجمهور، فالصدى
هو التأمل الذي يلي النص بلا ريب. قال تعالى: "والسماء ذات الرجع والأرض ذات
الصدع إنه لقول فصل، وما هو بالهزل":
"أنا موضع الجملة البكر
موضع أيا منا في الغمام
إذا انتصب العارفون أمام الأمام
وموضع سر القتيلة في كل عام
وموضع ما نهب العاشقون
من الأغنيات التي أغرق الحب فيها
يد الانسجام
أنا كل هذي المواضع
في موضع واحد
لا
ينام".
شرط الكتابة، وحضورها دائم العنفوان، هو نفي النوم وعدم
الاطمئنان ومغادرة السكينة. والشعر في مضمار آخر يصبح شخصاً مرموقاً، يتبختر أمامه
الصباح المليء بالقهوة والاخضرار، فكل شيء يغدو حديث العهد ومتجددا بفعل الحياة
نفسها:
"كأنك تشهد،
والماء يشهد
والعاصفات
وكل المرايا
بأنا وجدنا على الأرض
قبل انتصاب الحياة
وكنا معاً في الكلام نمارس حق الحقيقة".
ليس هناك، ما هو أشد ضراوة من الحقيقة، وفي الشعر الكلام الذي
هو عين الحقيقة، أو هو ما تبقى من حقيقة، لذا هتف:
"أنا بعد ما قلت شيئاً.
أسرح ما قد تجلى
وما قد تأول في الشعر
يا بيت أوجاعنا في مدار القضايا.
ويا حارة للجوار
ويا بيت أمي
أنا ما لبست ثياب الحداد
ولا قلت هذا دمي".
فالشاعر وقد ترعرع ونشأ مع الوجع والألم، فهو الأقدر على تأويل
ما صعب واستعصى على الفهم والتفسير، وهو أيضاً ما يسمي العناصر بأسمائها، لا
يتراجع ولا يحيد إن يسكن الحقيقة: "وتركت في قصر الكتابة منجمي".
يبلغ تواطؤ الشاعر أقصاه، مع الحنين، ويصبح رهناً له وللزمان
الذي أنتجه:
"قد رأيت سياحة في دفتر التاريخ
تنبش عن نقوش الشعر في بحر ظمى".
الشاعر الأصيل يبقى شديد الظمأ، للتراث وأصالة الشعر الكامنة في
أعمال القدماء، يرى فيها كنوزاً غير قابلة للشحوب والذوبان. إنها سياحة الشاعر
السرمدية، من دون منازع، وهي الرهان الذي يباهي به ويفتخر:
"لي ما للقصيدة من سماء خلتها تتعمد
لي ما للحوار من البلاغة مورد".
إنه يدعو إلى التهيؤ، للمزيد من الشعر والروعة، فالشاعر يملك كل
مسوغات الجمال العابرة، للحب، وهو يملك القلب المديد الفسيح. إنها تشكل بكليتها،
مجالاً حيوياً للقبول والمدح والثناء:
"فتهيئي
يا جملة الريح القديمة
واستعيدي من فضاء الشعر
ما قد ينجلي
عن سيفه أو يغمد،
فأنا تركتك في مهب الكائنات
قليلة
وحسرت ثوبك عن رهانك
وتمسح عن إخوة الظل
ذئب التمني
وذئب الفراق"
مع افتتان الشاعر بالحمام، إلا أنه عاد يذكرنا أن الحمام الذي
ينثر له العشاق الحب في الساحات، هو غيره الحمام الذي طار ويطير، من أجل السلام مع
الأعداء، والأب هنا كما في كل قصائد المجموعة، وقصائد غيره من الشعراء، هو الوجدان
الناصع الحقيقة وجدارها المتين متوحد البنيان.
"حمام الخطى يا أبي
ليس مثل الحمام الذي طار
من صحن بيت الرفاق
إذن فانتظرني
لعل يدي تنحني فوق كفك
لتبلغ في آخر العمر إيقاع عمرك".
الحوارات متعددة المستوى، جاءت لتغني النص، وتفضح محتواه.
والخطيب لا يقيم في اللغة، وإنما يعيد ترتيب الأشياء يرج المعنى بمكيدة اليقظ،
ويصنع حياة حافلة بالألوان واضعاً حداً للرتابة التي تجتاح الفراغ:
"فأرى مدائن في رحاب العنكبوت
تكز خيط النار عن جسد
إذا عاجلته مدداً".
والشاعر الخطيب لا يعنيه فقط المقابلة بين عنصرين نفيسين، وإنما
قصد نفسه الشاعرة المتوثبة الطموحة. يقول:
"وأنا دليل الذات في تكسير عظم الانكفاء
وطاقتي حرف يصفر.. لا مكان".
الجدل القائم في النص، يومئ بقدرة الشاعر الخطيب على امتلاك
أوزانه الشعرية والتقنية، في خلخلة الوعي لدى المتلقي، ويجعله عرضة للمزيد من
الأسئلة، إن وظيفة الشعر لديه، تختلف عن مثيلاتها، بتبنيها الرهان على المتلقي في
كشف المستور من النص، عبر قراءات متعددة المستوى، ولا يتأتى هذا إلا بفعل فطرة
وحاسة واعية، يحمل في جنباتها وجع الشعر وألمه.
0 Comments: