تشكيل الصورة

 


  من عادة درّاقة جمع الخرق البالية " الشرايط" كما يسمّيها أهل الحارة  ، لكي تفوز ببضع ساعات في مطحنة الكاشف  ، وعندما كانت تسألها والدتها عن سبب امتناعها عن طحنها في المطحنة المتحركة  ، كانت تجيبها بأنّ الطّحان يتحرّش بها.

_ سأعرف كيف أربّي ابن الدايّة"

  الدّاية هي التي كانت مسئولة عن ولادة النساء في الحارة  ، وهي امرأة ذات يدين خفيفتين ومرنتين كما كانت تصفها النساء  ، لحيويتها في الحالات الصعبة

_ الباب الذي تأتي منه الريح  ، نحاول أن نسُدّه يا أمي ونستريح  ، ومطحنة الكاشف ليست بالبعيدة

_ لكن يجب أن يتعلّم الأدب مع بنات الحارة وغيرها

_ نحن هنا وهو هناك ولا حاجة لنا لإثارة المشاكل

   اقتنعتْ أمُّ دراقة بكلامها  ، ولكنها مع هذا قالت 

_ ولكن حاذري أن تتأخري

  قفزتْ طيور الرغبة في قفص دراقة  ، واستجمعتْ كلّ مجرّات الدنيا بين يديها  ،هي لحظات وسوف تغتال لحظة الواقع  ، لتعبر أقصى درجات الحلم  ، الحلم الذي يتكسّر كلما لاح لها المهندس في طريق

_ لماذا تريدني أن أعيش في الواقع المتخيّل أيها المهندس ؟

_ لماذا تسحبني من زئبق ذاتي  ، وتجرني اتجاه التوتر والقلق؟

_ ما الذي في عباءتك الخفية  ، وأفكارك التي لا تركن لجملة عطف  ،

_ لماذا تعطف منحنيات أنفاسي العليّة  ، على الطريق ألشكي؟

_ لماذا كلُّ هذا الحنين الذي أحسُّ به في شرايين ذاتك يموت أمام أشعتي الحمراء  ، ونرجسي المقطر عنفواناً وشهوة ؟

  هواجسها الضاغطة على أعصاب الخطى تفرُّ دائماً صوب المهندس  ، ولكنه اليأس الذي تراه في مرايا الكلام الافتراضي عن العالم الافتراضي  ، والذي لا يفارق المهندس في كلّ سكناته وحركاتهِ.

_ اسمع يا ولد  ، اذهب بهذه " الشوالات " إلى بيت أبي الوداد  ، وعرّج في طريقك على بيتنا لإحضار الفطور  ،  وعلى أقل من مهلك

  لم تعد بعد دراقة من هواجسها رغم صوت الكاشف  بقيت في المنازلة السحريّة مع مقتنيات المهندس من الأفكار والرؤى  ، إلا أن حدة صوت الكاشف أيقظتها من حومتها

_ اذهب يا ولد  ، وإلا سأحطّم هذه الباكورة على جنبك

   انتبهتْ دراقة على ثورة الانفعال غير الحقيقي في كلام الكاشف  ، فابتسمت ابتسامة مليئة باللهاث وقالت

_ مرحبا

_ لماذا الدراق منذ زمن لم ينضج على غصن اللقاء

وبلهجة الواثق قالت :

_ الدراق له وقت معلوم  ، وأنت سيد العارفين

   تقدم الكاشف  ،وحمل شوالات الخرق البالية  ،وضعها جانباً  ،واستنفر كلّ مقومات الحذر التي كانت تصاحبه أبان صحبتهِ لعز الدين القسام  ، وضع إصبعه على دولاب المطحنة  ، وبدأ يحركه رويداً  ، تذكر إصبعه على الزناد  ، وبدأ في محاولة التصويب على الهدف  ، فإما أن تُقتل وإما أن تَقتل  ، ولا ثالث لهما  ، تلك حكمته القديمة  ، والتي ربما كانت من الأسباب في بقائه حيّا لهذا الوقت  ، وصدق الوصف الذي وصفه به الواصف_الكاشف رجل يعرف كيف يهادن الموت.

دار دولاب المطحنة  ، وتحركتْ غزالة الكلام  ، ولم يفزع الغمام إلا من صوت أبي الوداد  ، فهمس الكاشف في سرّه:

_ لماذا جئتَ يا رجل !!

تسير الخطى باتجاه الكلام

ولا أثر يبقى

إنها الريح التي يحركها المهندس

خافضاً ذاته  ،

من أجل قصيدته

فاهدئي يا زوابع الغمام

ليس لها سوى أن تمرّ على الشمس

وأوتار الإيقاع الذي تفرضه المعطيات

   مطحنة الكاشف تقع بالقرب من بستان الواصف  ، وهي المورد الوحيد للكاشف الذي يعيل سبعة أبناء  ، وأكبرهم في الثانوية العامة  ، ومن أمنيات الكاشف أن يراه طبيباً  ، ليختال ويمشي مرحاً باسمه فوق ذراع الأرض.

_ اسمع يا بني  ، غداً عندما تصبح طبيباً  ، أريدك أن تكون الكاشف الثاني  ، صاحب الجاه والنفوذ  ، صاحب الكلمة التي لا ترد  ، بهيبتك وعلمك  ، وأرجو أن تنتبه جيداً  ، وأن تتعامل بحزم مع أهل الصفوة  ، فإذا هابوك هابك الناس  ، وأطاعوك

_ يا أبي المنزلق في تعاظم الأمور  ، وانقشاع ضباب الكِبْر والخيلاء  ، وأنا أريد أن أكون سبط الحكماء  ، والذاهبين إلى موازين القصيدة

   لم يفهم الكاشف الطرف الأخير من الكلام  ، وعبثاً حاول أن يستدرج ابنه لكي يكشف عن مدفن الكلام

غير أن سليم الكاشف  ، حرّك أصابعه فوق دولاب المطحنة  ، وغيّر مجرى الحديث

_ القصيدة التي ندرسها في كتاب النصوص للشاعر عبد الرحيم محمود يا أبي  ، والتي تحثُّ على استعادة ما كنتَ فيه من الذكريات ومطلعها:

سأحمل روحي على راحتي

وألقي بها في مهاوي الردى

فإمّا حياة تسرّ الصديق

وإمّا ممات يغيض العدى

_ يا بني لو أنك رأيتَ ما رأيتُ من انكسار الرجال في لحظات الوحدة والغربة النفسية  ، ورأيتَ أنهار الدموع في عيون المهاجرين  ، وقرأتَ كؤوس الدم والدمار  ،  لما قلتَ هذا

_ ولكننا يا أبي بإمكاننا أن نجبر الكسرَ  ، وأن نستنزل المطر  ، وأن نملأ الكؤوس من أنهار الشمس

_ أنا أفهم ما ترمي إليه الآن   ، ولكنني أحذرك من أن تضيّع عمرك خلف السراب   ، فقط كن طبيباً وسيداً وسترى بأنّ كلامي في محلّه   ، كانت الثورات قائمة فيما مضى من عروق الشعب   ، أما اليوم فهي من مفردات الأنظمة   ، والورقة المخبّأة في أبجديات العلاقات بين هذا وذاك

_ اطمئن يا أبي   ، سأكون طبيباً ومن أهل الصفوة

   جاء هذا الكلام بعد أن أحسّ سليم الكاشف بأنّ أباه لن يتنازل قيد أنملة عن وجهة نظره  ، وأبطن في نفسه  ، بأن يكون من صفوة أهل الفكر والنضال.

   في المطحنة إلى جانب آلة الطحن التي تعمل على الوقود \ الحطب \ مكتب خشبي وعليه شرشف أزرق  وهاتف ذراعي يدوي   ، وهو الهاتف الوحيد في الحارة السفليّة   ، وكثيراً ما يقصد أهل الحارة مطحنة الكاشف لاستخدامه   ، والمكالمة كما تشير الورقة الموضوعة على الهاتف بقرش واحد   ، وهناك في الجانب الأيمن للمطحنة ثلاثة أرفف خشبية يستخدمها الكاشف لوضع شوالات الخرق البالية   ، وخلف المكتب الخشبي كرسي من القش المجدّل   ، وعلى يسار الباب الخشبي المخلوع وضع الكاشف علاقة خشبية   ، ليضع عليها عباءته   ، والكاشف الذي يعيل سبعة أنفار   ، أصغرهم شيماء ابنة الخمسة أعوام   ، لا يقرض أحداً مالاً   ، إلا برهن   ، وطالما سألته زوجته عن محتويات الصندوق الخشبي غير النقدية   ، وكان يجيبها بأن على الإنسان أن يكون حريصاً   ، ولكنها كانت تعيد له نفس الأسطوانة :

_ الدنيا حي ومفارق !!

يجب أن أعرف أسرار الصندوق  ،

_ لما يواريني التراب ستعرفين كلّ شيء يا امرأة

  الأوقات التي كان يقضيها الكاشف في المطحنة وعند أهل الصفوة   ، لم تكن تثير تساؤلات عند زوجته  لانشغالها بالأولاد   ، ولكن الأناقة التي أصبحت من مفردات الكاشف   ، ووقوفه أمام المرآة في كل وقت   ، وأوراق الصندوق التي لم يكشف لها حقيقتها   ، كانت بمثابة جرس الإنذار لها بأنّ شيئاً ما يجري في أنفاس هذه الحركات   ، لكنها لم تستطع أن تسأله خوف إثارة المشاكل   ،وسليم على أبواب الامتحانات   ، فكظمتْ حيرتها ووارت قلقها تحت قمصان الزمن.

 

   الكاشف ذلك الكهل الستيني له خطان متوازيان يسيران جنباً إلى جنب  ،المرهونات التي تزداد يوماً بعد يوم  ،وابنه سليم الطبيب القادم من أعماق الزمن  والذي سيكون عكازه الاجتماعي كما يظن في الحارتين   ، أما درّاقة فهي غمامة صيف والتهاب الأعصاب   ، بعد شيب الخطى في مغارة المعارك   ، آه لو تعلمين حقيقة هذه الأمور يا أم سليم لما كنتُ أتخفّى تحت براقع العتمة والحيرة والقلق .          

   خمسة أبناء بين سليم وشيماء : جاءوا في غفلة من الزمن المسروق   ، جاءوا مع حرارة البارود   ، ومارد التسلل الليلي إلى البيت في الأرض التي وُلِدَ فيها   ، وهو الذي كان يقول لصديقه سلمان أبي الحكم قبل زواجه من أم سليم في تلك البلاد التي اغتصبت سأكتفي يا صديقي بطفلين   ، واحدٌ لاختراق الحاجز النفسي واثبات ذكورتي أمام الأقرباء   ، وواحدٌ في توالي العمر   ، أعيدُ معه حرارة النفس   ، وشهوة الطفولة .


إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x