ما كان للجِرْوِع أن يتقي رعونة وطيش غبار ،
خاصة بعد طلاقه من راوية ، وما كان له أن يبعد طفلته سمنة عن خاصرة اللهو والغناء
، رغم أصابع غبار التي تطيش في صلصالها الغض ، معزّياً نفسه بالعبارة النعاميّة
" ما زالت صغيرة ولا تعي حراك المكبوت " .
الغناء الطللي الذي يجيده غبار ، يسعى بين يديّ
الجروع ، وعلى ربابته ، وفي نزق الجوقة التي انحدرت من صخرةٍ صماء ، رغم شفافية
حضورها مع الكلام ، ولكن الطللية الجديدة التي انسحبت على شفاه غبار لم ترق للجروع
، لشدة وعورة أنساقها النفسية ، فأعطى لصوته الغجريّ الطريد ، مساحة للغيم ليحجب
هذه الأنساق النفسية، مما حدا بغبار أن يحرّك أصابعه بين تلّين صغيرين لم يظفرا
بمياه الوادي بعد ، مستفيداً من نعاس الحياة في عيون الجروع ، وهو يتمايل في حضرة
الربابة والصوت الغجري المطرود .
بعد ليلٍ مشغولٍ على سنارة الوقت المنكشف على
عورة الذات ، عاد غبار إلى البيت ، محملاً بذاكرة صغيرة لم تغادر حدود حاسة اللمس
، تصحبه شهوة ملؤها المحرم ، ووقودها الأصل والفرع .
دخل البيت متكئاً على غفوتهِ ، وخروج آخر ما
يمكن للمرء أن يتنفّس من خلالهِ ، وقف على الزجاج المهشّم ، ثمّ مدّ يده باتجاه
الفراغ ، ولم يلتقط غير مرثيته .
كان المستنجد والمعتمد وشامة يلتحفون أرض
المقبرة ، وفي أنفاس كلّ منهم ، ما يدير شؤون الكلام الخفيض ، الذي ما سعى في
مرايا غبار وراوية إلا دقائق معدودة .
قالت شامة وقد حفرت الحصى في صلصالها الغضّ
_
لماذا لا نعود إلى البيت ؟
ظفر
السؤال بأوردة المستنجد ، ولم يجب ، فكررت شامة سؤالها مع إضافة ما يمكن له أن
يقيم بالاً لدى أخيها
_
لماذا لا نعود ما دام الطلاق قد حصل ، وذهب كلّ منهما في طريق ؟
_
البقاء هنا يقي أنوثتك غبار غبار
لم
تفهم عين الحقيقة في كلام أخيها ، ولكنها أحسّت برجفة أقعدتها عن المسير في
الأمنية ، فأردف المستنجد
_
اهدئي ، نحن هنا في طريقنا إلى البقاء ، والعودة تعني فناء الأصل والفرع
كيف للمستنجد أن يعي فداحة الأمر رغم حداثة
سنّه ، هل هو المعنى المبثوث في الداخل المرئي الذي لا تحجبه تراكمات الزمن ، أم
أنه الخوف من الزمن .
ربّت على يد شامة التي ارتجفت من نباح الكلاب
، وقال لها بحنوٍ شديد :
_
اهدئي ، ونامي ، ألا ترين المعتمد يغطّ في نوم عميق ، أنا حارسكما ، ستعتادين
شيئاً فشيئاً ، كلّ ما عليك هو أن تنامي ، لتحلمي يا صغيرتي ، فالكلاب لا تنهشُ
الحالم ، لأنه في مأمنٍ من عيون الواقع .
طفحت جفون شامة بالهدهدة ، وألقت برأسها على
فخذ المستنجد التي تقاسمتها مع المعتمد، وراحت في سبات عميق .
ما كانت عينا المستنجد لتنام ، وهي ترقب
سريرتهما التي تنخفض وترتفع بطريقة لا تخلو من هندسةٍ قلّ نظيرها ، وما كان ليسحب
فخذه الأيمن التي نمّلها الخدر ، وحنّطتها الحصى المدبّبة ، حتى في اللحظات الحرجة
التي رأى فيها العقرب يسعى قريباً من أنوثة شامة ، خشية أن يضيع حلم أخوته في
نومةٍ تأخذهم إلى البعيد المرئي الذي لم يكن ليتحقق لولا هذا الأنين الداخلي الذي
كظمه في جوف كيانه ، فمدّ قدمه اليسرى باتجاه العقرب ، ليقع على عقرب الساعة الذي
ما كان ليدور لولا هذا الأنين .
في الضحى الذي يستر الشمس عن غوايتها الصباحية
، وبعد أن غرز إبر الدّوال النفسية في فخذه الأيمن التي نمّلها الخدر وحنطتها
الحصى ، هبّ من غفوة الصحو باتجاه النائحات لاطمات الضحى ، تاركاً لنهر العيون أن
يغيّر مجراه ومستقره .
المعتمد الذي اعتاد أن يتأمّل الحصيرة
المقمّشة، أدرك معنى أن تكون الأرض فراشاً والسماء لحافاً وأيقن أن لا مفرّ من السير خلف خطى المستنجد ،
بعد أن رأى شامة تفتح الطريق أمام قوافل النمل .
أمّا شامة التي لفحتها شمس الضحى ، وعفّرها
غبار التراب ، وأرضعتها المقبرة حليب الأمومة ، فقد رأت في أنساق التجربة ما يؤثث
طفولتها من غير تبعية الراهن الذي هدّ طلاوة أحلامها .
الأيام التي خلت كانت كافية ليختار المستنجد
منزله الجديد ، في الجهة الغربية ، الجهة التي لم يبق فيها شبراً واحداً لمواراة
جثة ، والجهة التي انقطع زوارها ، والنائحات اللاطمات ، عن الاقتراب منها ، لأن
أهلها الراقدون في فراسخها ، مضى عليهم زمن طويل ، ولم يبق من أثر دال على سيرتهم
الذاتية ، بعد أن تحطّمت الشواهد ، وأغلقت الطرق بالعشب الشوكي .
هنا في الجهة الغربية ، بدأ يحفر المستنجد
والمعتمد وشامة نصف منزلهم الأرضي ، تاركين لشجرة الصنوبر ثوبها الورقي ، لتظلل
المكان ، بدءوا واستنفروا كلّ طاقات الطفولة وعبثها ، ليستمر هذا العزف الكوني
ثلاثة أيام ، ويكون أثاثهم التراب ، وطعامهم رحى الدهر.
فَقَدَ غبار السيطرة على أعصابهِ ، كما لو أن
رحى الخمر تدور للمرّة الأولى في رأسه ، بعد أن خلا البيت من أنفاسهِ التي طالما
خفّفتْ من وقع صدمة الذهول التي يحياها ، وما كان ليعي مدى خطورة الهواجس التي
تتقاذفه ، عندما بدأت تلوح له في ظاهر الزجاج المهشّم ، صورة سمنة وهي تتداخل في
صلصال شامة ، كلُّ شيء كان قابلاً للفقد ، حتى تلك اللحظات التي سيقت إلى رجولته
المبكرة ، وهو ينحدر إلى أسفل الوادي للقاء راوية في أوّل تنهدات للقلب .
جلس على عتبة البيت الداخلية ، مختصراً كلَّ
لحظات النمو في كينونته التي أتعبها وقع أقدام الشظايا التي كانت تغرز في جسد
العشيرة ، وهي تشيّع جنائزها ، لا شيء معه غير ذلك الانحسار في منابت الأمعاء ،
وطلاوة الأصابع وهي تنخفض وتعلو ما بين المتخيّل ، وبين قطرات الندى التي لا قبل
له فيها ، ما دام الوردُ في زغبه البرعمي
، وما بين المتخيّل والندى تتشابك الصور ، وتنزلق القوامة عن خطها المستقيم .
وحيداً يا غبار ولا شيء معك ، سوى حضورك
الجهنمي ، ورحى الضمير المستتر في مرايا الطريق ، وحيداً ، وسوف يترمّل فيك الردى
.
كلّ شيء قابل للانحسار إذن يا غبار ، فاهدأ ،
ولملم بقاياك ، ولتكن واحداً في واحد ، لتكن سمنة مرثاتك التي لا غناء فيها ،
ولتكن الجوقة هي بابك الذي تلج من خلاله إلى كسر حدة الإيقاع ، إيقاع الزمن الذي
سرقه الغبار منك يا غبار ، ليكن بحثك الدائم عن كينونتك ، هو الفحم الذي يعطي
القطار قدرة على السير فوق السكك ، ولتكن أصابعك هي الدليل إلى فوضى انكسار الليل
والنهار .
كلّ شيء قابل للانحسار ، فاخرج من نفسك إلى ما
لا يشبهك ، واقطن في ذاتك بعد كلّ انهيار.
وقف غبار بعد أن كسفت عيناه ، وأعياها شريط
الماضي ، وأفرغ ما في جبته من الخمر في جوفه الفارغ ، وقف كأداة استفهام أمام سطر
الحياة ، وخبأ علامة السؤال خلف نقط الفراغ ، وخرج من البيت ، لا وجهة له ، غير أن
ينسى عربات القطار التي أفلتت من أذرع الطمأنينة .
في الطريق التي لا طريق فيها ، تعثر غبار
بأوراق الخريف ، الأوراق التي تحبّرت في خطوطها سيرته الحبلى بالأنواء ، كان يمشي
كمن سحبته جنيّة في مخدع أحلامها ، نحو أنوية الذات التي لا تكشف عن جبروتها
بسهولة ، كانت تفتح أمامه الممكن وغير الممكن ، ثمّ ما كان سهلاً عليه أن يمرّ
أمام تلك الصور المتعاقبة التي تدفعه للانتحار ، كثيراً ما فكّر في آليته ، ولكنّ
شيئاً ما غامضاً كان يسحبه نحو طفولته ، الطفولة التي عجنتها يد القدر ، وما كان
سهلاً عليه أن يرى فائض الدموع التي انهالت من عيني أمه ، وهي تؤثث له منزل الرضا
، وما كان سهلاً عليه أن يرى والده المستكين يستكين إلى بيع حصانه المدلل ، ليؤمن
له وليمةً تليق بالعشيرة التي حاصرتها العشائر .
الغموض الذي يلفّ خطى غبار في الطريق التي لا
طريق فيها ، لا يفضي إلا لكثير من التوجس ، والانغماس في حضرة الصلصال ، ولو كان
ذا خصوصية محرمة ، فقط أن تبقى الذات في كمائنها المؤجّلة ، هو كلّ ما يندرج في
ذاكرته، فالغموض في كراسة المعنى في حالة غبار ، غموض ماض يستدرج أجنته الثلاثة من
غبار الزمن ، وغموض حاضر يدفعه نحو أنوية الذات ، وغموض قادم يكشف له عمق التحولات
التي في الطريق .
هل هي أنوية الذات التي تقودك إلى خيمة الجروع
، الخمر ، الغناء ، سمنة ، أم هو الهروب من واقع التقاء العين بالعين ، رغم شدة
السواد الذي يلفّ جفنيك المشرعين على غواية الصقر الجريح .
ثلاثة أيام وغبار في متاهة الطريق ، لا تقوده
قدماه إلا إلى الكشف عن مسودّات الحفر التي حبّرها الزمن منذ طلاق راوية ، وهجرة
أطفاله الثلاثة ، ثلاثة أيام لم يستدل غبار على عنوان حقيقي له سيمياء التحوّل ،
ثلاثة أيامٍ بلياليها ،وهو في بئر الصدمة ، كلّ شيء قابل للنقصان ، ولا حراك
للمتخيّل بعيداً عن خيمة الجروع ، ولا مناص من صلصال سمنة ، وحواء الجوقة ، وهجرة
البيت ، والنوم في حضرة الأشباح ، ثلاثة أيام ولم يستطع أن يحشر النحل في مرايا
الورود.
خيمة الجروع هي الوجد القابض على جمر الخريف ،
وهي الفائض الوتري في حنجرة الذات،
وهي المستتر الذهني لحراك الفحم في قطار الرأس
، كما أنها المآل الوحيد الذي سيوفّر له خدراً وبنجاً طويل الأمد .
_
ما الذي أبعدك عنا يا غبار ، ثلاثة أيام ، والجوقة ينقصها وتر النهوند ؟
أخفى
غبار في نفسه صوت الجواب " وينقص صلصال سمنة ، حيّة الأصابع ، وجنون الذهول
"
ثمّ
علا صوته الأرجواني
_
ثلاثة أيام وأنا أبحث عني في ذاتي
قال
أحد أفراد الجوقة متهكّماً
_
وهل وجدت شيئاً في ذاتك ؟
وبنبرة
الغامض القادم قال غبار :
_
وجدت عالماً بأكمله ، عالماً لا يجيد غير مرارة الكلام ، وقلة الحيلة
وقال
آخر :
_
ولكننا في مارثون الغناء سنكون أكثر قوة على التحمّل .
وأضمر
غبار ثانية صوت الجواب ، وهو يعمّد جملته الأخيرة في صلصال سمنة قبل أن تسحبه
الربابة إلى فضاء الواقع " وفي ماراثون الأصابع".
0 Comments: