متاهة الطريق

 

  ما كان للجِرْوِع أن يتقي رعونة وطيش غبار ، خاصة بعد طلاقه من راوية ، وما كان له أن يبعد طفلته سمنة عن خاصرة اللهو والغناء ، رغم أصابع غبار التي تطيش في صلصالها الغض ، معزّياً نفسه بالعبارة النعاميّة " ما زالت صغيرة ولا تعي حراك المكبوت " .

  الغناء الطللي الذي يجيده غبار ، يسعى بين يديّ الجروع ، وعلى ربابته ، وفي نزق الجوقة التي انحدرت من صخرةٍ صماء ، رغم شفافية حضورها مع الكلام ، ولكن الطللية الجديدة التي انسحبت على شفاه غبار لم ترق للجروع ، لشدة وعورة أنساقها النفسية ، فأعطى لصوته الغجريّ الطريد ، مساحة للغيم ليحجب هذه الأنساق النفسية، مما حدا بغبار أن يحرّك أصابعه بين تلّين صغيرين لم يظفرا بمياه الوادي بعد ، مستفيداً من نعاس الحياة في عيون الجروع ، وهو يتمايل في حضرة الربابة والصوت الغجري المطرود .

  بعد ليلٍ مشغولٍ على سنارة الوقت المنكشف على عورة الذات ، عاد غبار إلى البيت ، محملاً بذاكرة صغيرة لم تغادر حدود حاسة اللمس ، تصحبه شهوة ملؤها المحرم ، ووقودها الأصل والفرع .

  دخل البيت متكئاً على غفوتهِ ، وخروج آخر ما يمكن للمرء أن يتنفّس من خلالهِ ، وقف على الزجاج المهشّم ، ثمّ مدّ يده باتجاه الفراغ ، ولم يلتقط غير مرثيته .

  كان المستنجد والمعتمد وشامة يلتحفون أرض المقبرة ، وفي أنفاس كلّ منهم ، ما يدير شؤون الكلام الخفيض ، الذي ما سعى في مرايا غبار وراوية إلا دقائق معدودة .

 قالت شامة وقد حفرت الحصى في صلصالها الغضّ

_ لماذا لا نعود إلى البيت ؟

ظفر السؤال بأوردة المستنجد ، ولم يجب ، فكررت شامة سؤالها مع إضافة ما يمكن له أن يقيم بالاً لدى أخيها

_ لماذا لا نعود ما دام الطلاق قد حصل ، وذهب كلّ منهما في طريق ؟

_ البقاء هنا يقي أنوثتك غبار غبار

لم تفهم عين الحقيقة في كلام أخيها ، ولكنها أحسّت برجفة أقعدتها عن المسير في الأمنية ، فأردف المستنجد

_ اهدئي ، نحن هنا في طريقنا إلى البقاء ، والعودة تعني فناء الأصل والفرع

  كيف للمستنجد أن يعي فداحة الأمر رغم حداثة سنّه ، هل هو المعنى المبثوث في الداخل المرئي الذي لا تحجبه تراكمات الزمن ، أم أنه الخوف من الزمن .

   ربّت على يد شامة التي ارتجفت من نباح الكلاب ، وقال لها بحنوٍ شديد :

_ اهدئي ، ونامي ، ألا ترين المعتمد يغطّ في نوم عميق ، أنا حارسكما ، ستعتادين شيئاً فشيئاً ، كلّ ما عليك هو أن تنامي ، لتحلمي يا صغيرتي ، فالكلاب لا تنهشُ الحالم ، لأنه في مأمنٍ من عيون الواقع .

  طفحت جفون شامة بالهدهدة ، وألقت برأسها على فخذ المستنجد التي تقاسمتها مع المعتمد، وراحت في سبات عميق .

   ما كانت عينا المستنجد لتنام ، وهي ترقب سريرتهما التي تنخفض وترتفع بطريقة لا تخلو من هندسةٍ قلّ نظيرها ، وما كان ليسحب فخذه الأيمن التي نمّلها الخدر ، وحنّطتها الحصى المدبّبة ، حتى في اللحظات الحرجة التي رأى فيها العقرب يسعى قريباً من أنوثة شامة ، خشية أن يضيع حلم أخوته في نومةٍ تأخذهم إلى البعيد المرئي الذي لم يكن ليتحقق لولا هذا الأنين الداخلي الذي كظمه في جوف كيانه ، فمدّ قدمه اليسرى باتجاه العقرب ، ليقع على عقرب الساعة الذي ما كان ليدور لولا هذا الأنين .

  في الضحى الذي يستر الشمس عن غوايتها الصباحية ، وبعد أن غرز إبر الدّوال النفسية في فخذه الأيمن التي نمّلها الخدر وحنطتها الحصى ، هبّ من غفوة الصحو باتجاه النائحات لاطمات الضحى ، تاركاً لنهر العيون أن يغيّر مجراه ومستقره .

  المعتمد الذي اعتاد أن يتأمّل الحصيرة المقمّشة، أدرك معنى أن تكون الأرض فراشاً والسماء لحافاً  وأيقن أن لا مفرّ من السير خلف خطى المستنجد ، بعد أن رأى شامة تفتح الطريق أمام قوافل النمل .

  أمّا شامة التي لفحتها شمس الضحى ، وعفّرها غبار التراب ، وأرضعتها المقبرة حليب الأمومة ، فقد رأت في أنساق التجربة ما يؤثث طفولتها من غير تبعية الراهن الذي هدّ طلاوة أحلامها . 

   الأيام التي خلت كانت كافية ليختار المستنجد منزله الجديد ، في الجهة الغربية ، الجهة التي لم يبق فيها شبراً واحداً لمواراة جثة ، والجهة التي انقطع زوارها ، والنائحات اللاطمات ، عن الاقتراب منها ، لأن أهلها الراقدون في فراسخها ، مضى عليهم زمن طويل ، ولم يبق من أثر دال على سيرتهم الذاتية ، بعد أن تحطّمت الشواهد ، وأغلقت الطرق بالعشب الشوكي .

   هنا في الجهة الغربية ، بدأ يحفر المستنجد والمعتمد وشامة نصف منزلهم الأرضي ، تاركين لشجرة الصنوبر ثوبها الورقي ، لتظلل المكان ، بدءوا واستنفروا كلّ طاقات الطفولة وعبثها ، ليستمر هذا العزف الكوني ثلاثة أيام ، ويكون أثاثهم التراب ، وطعامهم رحى الدهر.

    

  فَقَدَ غبار السيطرة على أعصابهِ ، كما لو أن رحى الخمر تدور للمرّة الأولى في رأسه ، بعد أن خلا البيت من أنفاسهِ التي طالما خفّفتْ من وقع صدمة الذهول التي يحياها ، وما كان ليعي مدى خطورة الهواجس التي تتقاذفه ، عندما بدأت تلوح له في ظاهر الزجاج المهشّم ، صورة سمنة وهي تتداخل في صلصال شامة ، كلُّ شيء كان قابلاً للفقد ، حتى تلك اللحظات التي سيقت إلى رجولته المبكرة ، وهو ينحدر إلى أسفل الوادي للقاء راوية في أوّل تنهدات للقلب .

  جلس على عتبة البيت الداخلية ، مختصراً كلَّ لحظات النمو في كينونته التي أتعبها وقع أقدام الشظايا التي كانت تغرز في جسد العشيرة ، وهي تشيّع جنائزها ، لا شيء معه غير ذلك الانحسار في منابت الأمعاء ، وطلاوة الأصابع وهي تنخفض وتعلو ما بين المتخيّل ، وبين قطرات الندى التي لا قبل له فيها ، ما دام الوردُ في  زغبه البرعمي ، وما بين المتخيّل والندى تتشابك الصور ، وتنزلق القوامة عن خطها المستقيم .

   وحيداً يا غبار ولا شيء معك ، سوى حضورك الجهنمي ، ورحى الضمير المستتر في مرايا الطريق ، وحيداً ، وسوف يترمّل فيك الردى .

   كلّ شيء قابل للانحسار إذن يا غبار ، فاهدأ ، ولملم بقاياك ، ولتكن واحداً في واحد ، لتكن سمنة مرثاتك التي لا غناء فيها ، ولتكن الجوقة هي بابك الذي تلج من خلاله إلى كسر حدة الإيقاع ، إيقاع الزمن الذي سرقه الغبار منك يا غبار ، ليكن بحثك الدائم عن كينونتك ، هو الفحم الذي يعطي القطار قدرة على السير فوق السكك ، ولتكن أصابعك هي الدليل إلى فوضى انكسار الليل والنهار .

   كلّ شيء قابل للانحسار ، فاخرج من نفسك إلى ما لا يشبهك ، واقطن في ذاتك بعد كلّ انهيار.

    وقف غبار بعد أن كسفت عيناه ، وأعياها شريط الماضي ، وأفرغ ما في جبته من الخمر في جوفه الفارغ ، وقف كأداة استفهام أمام سطر الحياة ، وخبأ علامة السؤال خلف نقط الفراغ ، وخرج من البيت ، لا وجهة له ، غير أن ينسى عربات القطار التي أفلتت من أذرع الطمأنينة .

    في الطريق التي لا طريق فيها ، تعثر غبار بأوراق الخريف ، الأوراق التي تحبّرت في خطوطها سيرته الحبلى بالأنواء ، كان يمشي كمن سحبته جنيّة في مخدع أحلامها ، نحو أنوية الذات التي لا تكشف عن جبروتها بسهولة ، كانت تفتح أمامه الممكن وغير الممكن ، ثمّ ما كان سهلاً عليه أن يمرّ أمام تلك الصور المتعاقبة التي تدفعه للانتحار ، كثيراً ما فكّر في آليته ، ولكنّ شيئاً ما غامضاً كان يسحبه نحو طفولته ، الطفولة التي عجنتها يد القدر ، وما كان سهلاً عليه أن يرى فائض الدموع التي انهالت من عيني أمه ، وهي تؤثث له منزل الرضا ، وما كان سهلاً عليه أن يرى والده المستكين يستكين إلى بيع حصانه المدلل ، ليؤمن له وليمةً تليق بالعشيرة التي حاصرتها العشائر .

   الغموض الذي يلفّ خطى غبار في الطريق التي لا طريق فيها ، لا يفضي إلا لكثير من التوجس ، والانغماس في حضرة الصلصال ، ولو كان ذا خصوصية محرمة ، فقط أن تبقى الذات في كمائنها المؤجّلة ، هو كلّ ما يندرج في ذاكرته، فالغموض في كراسة المعنى في حالة غبار ، غموض ماض يستدرج أجنته الثلاثة من غبار الزمن ، وغموض حاضر يدفعه نحو أنوية الذات ، وغموض قادم يكشف له عمق التحولات التي في الطريق .

   هل هي أنوية الذات التي تقودك إلى خيمة الجروع ، الخمر ، الغناء ، سمنة ، أم هو الهروب من واقع التقاء العين بالعين ، رغم شدة السواد الذي يلفّ جفنيك المشرعين على غواية الصقر الجريح .

   ثلاثة أيام وغبار في متاهة الطريق ، لا تقوده قدماه إلا إلى الكشف عن مسودّات الحفر التي حبّرها الزمن منذ طلاق راوية ، وهجرة أطفاله الثلاثة ، ثلاثة أيام لم يستدل غبار على عنوان حقيقي له سيمياء التحوّل ، ثلاثة أيامٍ بلياليها ،وهو في بئر الصدمة ، كلّ شيء قابل للنقصان ، ولا حراك للمتخيّل بعيداً عن خيمة الجروع ، ولا مناص من صلصال سمنة ، وحواء الجوقة ، وهجرة البيت ، والنوم في حضرة الأشباح ، ثلاثة أيام ولم يستطع أن يحشر النحل في مرايا الورود.

   خيمة الجروع هي الوجد القابض على جمر الخريف ، وهي الفائض الوتري في حنجرة الذات،

  وهي المستتر الذهني لحراك الفحم في قطار الرأس ، كما أنها المآل الوحيد الذي سيوفّر له خدراً وبنجاً طويل الأمد .

_ ما الذي أبعدك عنا يا غبار ، ثلاثة أيام ، والجوقة ينقصها وتر النهوند ؟

أخفى غبار في نفسه صوت الجواب " وينقص صلصال سمنة ، حيّة الأصابع ، وجنون الذهول "

ثمّ علا صوته الأرجواني

_ ثلاثة أيام وأنا أبحث عني في ذاتي

قال أحد أفراد الجوقة متهكّماً

_ وهل وجدت شيئاً في ذاتك ؟

وبنبرة الغامض القادم قال غبار :

_ وجدت عالماً بأكمله ، عالماً لا يجيد غير مرارة الكلام ، وقلة الحيلة

وقال آخر :

_ ولكننا في مارثون الغناء سنكون أكثر قوة على التحمّل .

وأضمر غبار ثانية صوت الجواب ، وهو يعمّد جملته الأخيرة في صلصال سمنة قبل أن تسحبه الربابة إلى فضاء الواقع " وفي ماراثون الأصابع".


إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x