حفرة الانهدام

 

   في الوجه الخفي لخيمة الجروع يقف القصر الذي لا يعلم بحقيقته أحد ، حتى الجوقة التي لا تكاد تنفضّ من حوله ، ولا زوجته التي لا تعود إلى البيت إلا إذا ملأت جيوب فستانها المزركش بما يجعل الجروع يغطّ في نومٍ عميق ، القصر الذي بناه قبل أعوام، ليكون منطلقاً ، لشخصيّتهِ التي لا يعرفها أحد ، الشخصية التي تشكّل الوجه الآخر له ، والتي لو رآها غبار ما أوحت له بسيف المعرفة.

   في القصر الذي استطاع أن يسحب راوية من غوايتها ، ومن بكارة أحلامها ، ومن عبثية غبار ، وطمأنينة الأجنة الثلاثة ، تتهيأ الولائم ، أمام عليّة القوم الذين توافدوا لحضور عرس الجروع .

    العبث واللامبالاة هما اللذان وفّرا لراوية هذا المناخ الجديد ، والحياة التي تطلّ على وجهين ، وجه الانسياق خلف لهاث الرغبة ، ووجه القلق والحيرة في منازعة ما مضى ، وما زالت تذكر تلك الليلة التي بدا فيها الشفق أرجوانياً بعد أن طردها صاحب الحانة ، وهي تغطّ في ثمالةٍ لا رادع لها سوى البكاء والعيون المتفرّسة ، والأفاعي البشرية التي أحاطت بها من كلّ جانب ، إذ خيّل لكلّ أفعى أنها فريستها المغطاة بالرعب والانكسار .

   تكوّمتْ على ذاتها في تلك الزاوية التي تشعّ عليها أنوار الحقيقة ، ووضعت يديها ستاراً على منازل القميص الممزق ، بعد أن تركها المتسوّل الأعمى عرضة للرياح والعتمة ، وقلة الحيلة ، وبعد أن أيقنت أن لحمة البكارة انعكست في مرآة ابنتها شامة .

   الأفاعي البشرية تقترب شيئاً فشيئاً ، مثنى وفرادى وجماعات ، والسبيل إلى مناجاة الذات أضحى في مهب الريح ، ولم يعد في جعبتها ما يقوّي الصلصال الذي تشقق تحت أعيرة المتسول الأعمى ، إذن هي النهاية التي لا تتصالح مع عرجون البدايات ، وهي الموت البطيء ، وهي المسافة الفاصلة بين ذرتين متماسكتين ومنفصلتين في آنٍ واحد .

   ما كان لها أن تراقب حفرة الانهدام وهي تفقد القوى الممغنطة ، وما كان لها أن تشهد خطف النيازك من مجرات الرؤى التي تتدافع في مخيّلتها، فاستسلمت لنعاس هادىء ، ومرارة حلم ستنساه بعد أن تستجمع قواها مرة أخرى ، استسلمت وذهبت بعيداً في تأويل الضعف والخوف والترف ، ولم تصح إلا على حلم قادم من أعماق القصر ، بعد ليلةٍ ضمنها الجروعُ كلّ مفردات غجريته .

   ما زال عليّة القوم يتوافدون إلى القصر ، كزوجي يمامٍ داخ في إثر مشهد بحري ، وفي جعبة كلّ واحدٍ منهم دمٌ فاترٌ ، يتوافدون ، ويستقبلهم الجروع بابتسامةٍ عريضة ملؤها الأنا ، وفائضُ أنسابهِ وغجريتهِ .

   الجروع هذا الاسم المتوتر والمنخفض عن عين الحقيقة ، والمبتلّ حتى شرايين أحرفه الغليظة ، ليس له مكان في القصر ، إذ استبدله بالراضي سعيد ، والراضي سعيد كما يدور في أذهان عليّة القوم ، يجلس وينام على كنز ، وبيده مفاتيح كلّ شيء .

   راوية منذ أن تعرّفتْ على الراضي سعيد ، لم تسأله عن حقيقة عمله ، ولا من أين جاء بكلّ هذه الأموال التي لا تحرقها النيران ، ولم تكتشف عين الحقيقة في شخصيته ، فقد ألهب حواسها القصر والجاه والرجولة ، وحطّم في أنوثتها معنى الأسئلة المنجّمة .

   بعد أن عادت رقاع الدعوة إلى صندوقها ، والتمّ شمل المدعوين ، تقدم الراضي سعيد ، ونظر إلى المدعوين ، وما هي إلا لحظات حتى أشرع باب القصر ، لتخرج راوية بثوبها الأبيض مختالة كالطاووس إلى الساحة التي اكتظّت بالمدعوين تصحبها وصيفات القصر ، مدّ الراضي سعيد يده وقال :

_ أقدم لكم زوجتي راوية

   فعزفت الموسيقى لحنها القابض على الأجنة، ودارت الكؤوس بلذة النشوة المزيّفة، واختالت حديقة القصر بألوانها القزحيّة .


إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x