في الوجه الخفي لخيمة الجروع يقف القصر الذي
لا يعلم بحقيقته أحد ، حتى الجوقة التي لا تكاد تنفضّ من حوله ، ولا زوجته التي لا
تعود إلى البيت إلا إذا ملأت جيوب فستانها المزركش بما يجعل الجروع يغطّ في نومٍ
عميق ، القصر الذي بناه قبل أعوام، ليكون منطلقاً ، لشخصيّتهِ التي لا يعرفها أحد
، الشخصية التي تشكّل الوجه الآخر له ، والتي لو رآها غبار ما أوحت له بسيف
المعرفة.
في القصر الذي استطاع أن يسحب راوية من
غوايتها ، ومن بكارة أحلامها ، ومن عبثية غبار ، وطمأنينة الأجنة الثلاثة ، تتهيأ
الولائم ، أمام عليّة القوم الذين توافدوا لحضور عرس الجروع .
العبث واللامبالاة هما اللذان وفّرا لراوية
هذا المناخ الجديد ، والحياة التي تطلّ على وجهين ، وجه الانسياق خلف لهاث الرغبة
، ووجه القلق والحيرة في منازعة ما مضى ، وما زالت تذكر تلك الليلة التي بدا فيها
الشفق أرجوانياً بعد أن طردها صاحب الحانة ، وهي تغطّ في ثمالةٍ لا رادع لها سوى
البكاء والعيون المتفرّسة ، والأفاعي البشرية التي أحاطت بها من كلّ جانب ، إذ
خيّل لكلّ أفعى أنها فريستها المغطاة بالرعب والانكسار .
تكوّمتْ على ذاتها في تلك الزاوية التي تشعّ
عليها أنوار الحقيقة ، ووضعت يديها ستاراً على منازل القميص الممزق ، بعد أن تركها
المتسوّل الأعمى عرضة للرياح والعتمة ، وقلة الحيلة ، وبعد أن أيقنت أن لحمة
البكارة انعكست في مرآة ابنتها شامة .
الأفاعي البشرية تقترب شيئاً فشيئاً ، مثنى
وفرادى وجماعات ، والسبيل إلى مناجاة الذات أضحى في مهب الريح ، ولم يعد في جعبتها
ما يقوّي الصلصال الذي تشقق تحت أعيرة المتسول الأعمى ، إذن هي النهاية التي لا
تتصالح مع عرجون البدايات ، وهي الموت البطيء ، وهي المسافة الفاصلة بين ذرتين
متماسكتين ومنفصلتين في آنٍ واحد .
ما كان لها أن تراقب حفرة الانهدام وهي تفقد
القوى الممغنطة ، وما كان لها أن تشهد خطف النيازك من مجرات الرؤى التي تتدافع في
مخيّلتها، فاستسلمت لنعاس هادىء ، ومرارة حلم ستنساه بعد أن تستجمع قواها مرة أخرى
، استسلمت وذهبت بعيداً في تأويل الضعف والخوف والترف ، ولم تصح إلا على حلم قادم
من أعماق القصر ، بعد ليلةٍ ضمنها الجروعُ كلّ مفردات غجريته .
ما زال عليّة القوم يتوافدون إلى القصر ،
كزوجي يمامٍ داخ في إثر مشهد بحري ، وفي جعبة كلّ واحدٍ منهم دمٌ فاترٌ ، يتوافدون
، ويستقبلهم الجروع بابتسامةٍ عريضة ملؤها الأنا ، وفائضُ أنسابهِ وغجريتهِ .
الجروع هذا الاسم المتوتر والمنخفض عن عين
الحقيقة ، والمبتلّ حتى شرايين أحرفه الغليظة ، ليس له مكان في القصر ، إذ استبدله
بالراضي سعيد ، والراضي سعيد كما يدور في أذهان عليّة القوم ، يجلس وينام على كنز
، وبيده مفاتيح كلّ شيء .
راوية منذ أن تعرّفتْ على الراضي سعيد ، لم
تسأله عن حقيقة عمله ، ولا من أين جاء بكلّ هذه الأموال التي لا تحرقها النيران ،
ولم تكتشف عين الحقيقة في شخصيته ، فقد ألهب حواسها القصر والجاه والرجولة ، وحطّم
في أنوثتها معنى الأسئلة المنجّمة .
بعد أن عادت رقاع الدعوة إلى صندوقها ، والتمّ
شمل المدعوين ، تقدم الراضي سعيد ، ونظر إلى المدعوين ، وما هي إلا لحظات حتى أشرع
باب القصر ، لتخرج راوية بثوبها الأبيض مختالة كالطاووس إلى الساحة التي اكتظّت
بالمدعوين تصحبها وصيفات القصر ، مدّ الراضي سعيد يده وقال :
_
أقدم لكم زوجتي راوية
فعزفت الموسيقى لحنها القابض على الأجنة،
ودارت الكؤوس بلذة النشوة المزيّفة، واختالت حديقة القصر بألوانها القزحيّة .
0 Comments: