أخوة المستنجد

 

   المستنجد بن غبار لم يجد حرجاً في أن يأكل من الطعام الذي يوزّعه زوّار القبور ، وأن يدّخر شيئاً منه لأخته وأخيه ، ولم يجد ما يمنع من أن يقبل تلك الهبات الصغيرة التي تجود بها النساء النائحات اللاطمات على الخدود ، ولم تعيقه يداه الطريّتان عن إزاحة ما علق بالقبور من الأوراق الخريفية ، إنها طريقته الأولى في مدّ حبال المودة بينه وبين القبور وأهلها.

   ما أن تفرغ المقبرة من زوارها ولاطمات الخدود ، حتى يأخذ المستنجد نفَساً عميقاً ، مهيّأً نافورة الأحلام ، وقابضاً بكلّ ما أوتي من قوة على تلك النقود التي ستوفّر له نوماً عميقاً ، ولأخته وأخيه فرحاً منسيّاً ، وملاذاً طاعناً بالطفولة

   في الظهيرة التي تنشب أورادها في مخيلته ، يتسلل إلى البيت ، يدخله آمناً مطمئناً ، غير أن دولاب الفزع الذي يدور في السراج المعتم ، يحرّك فيه غضباً جامحاً ، وحزناً طافحاً بالنقص ، فيلقي بكلّ ما في جعبته أمام أخوتهِ ، ويأخذ ركناً عصيّاً على الفرح ، ويبكي ، تاركاً لأمه وأبيه جزعاً لا مردّ له .

    المعتمد الابن الصغير لغبار بن المستكين ، ذو الشرارة السادسة ، لا يعي من الأمر شيئاً ، كلّ ما يعنيه أن ينام على حراك الطفولة في صلصاله الغض ، لا يدرك معنى أن تتشقق الأصابع الطريّة، ولا معنى أن تغرز الأشواك في القدمين الحافيتين ، ولا معنى أن تأكل من جلد أخيه المستنجد عصا حارس المقبرة ، وشتائمه ، وبصاقه ، ولا عنفوان الكلاب الضآلة ، ونباحها ، ولا مخيلة الأشباح التي تتصل في العالم السفلي للمقبرة .

   لا بدّ إذن للمستنجد أن يصطحب أخاه المعتمد في اليوم التالي ، ليعي مدى الضغط النفسي والعصبي الذي يتقاذفه في كلّ ثانية ولحظة ، ويعي مدى صعوبة أن تمدّ يدك للنائحات اللاطمات .

   ما كان للمستنجد أن ينسى أخته شامة من هذا التمرين ، ولكنه أراد أن يتأكّد من صلابة أخيه المعتمد أوّلا ، وقدرته على التحمّل .

   أخذت المعتمد نوبة من البكاء وهو يرى النائحات اللاطمات في المقبرة ، ولكنها سرعان ما تلاشت تحت تأثير المستنجد الذي نهره بقوّة ، ضاغطاً على حنكه ، وماسحاً دموعه ، مما أثار دهشة النائحات اللاطمات ، اللواتي سارعن لإعطائه بعض ما في قدور الصدقة .

    بعد أن سكبتْ نار جرأتها في قفص الطيور البرية، عادت إلى بيتها راوية القاروري التي ما زالت ترى بكارة أنوثتها معلّقةً في برج العذراء ، رغم الأجنّة الثلاثة الذين دلفوا في غفلةٍ من الزمن  ورغم شتات صلصالها المسافر على لوحة الليل والغيم ، عادت وفي نيّتها الطلاق من غبار بن المستكين ، لا لأنه صاحب جبروت وغيرة ، بل لأن رجلاً ثريّاً حاصرها بفكرة الزواج ، فوجدت فيه ضآلة الشهوة والمال .

 _ هل ترى أن الحياة أصبحت مستحيلة بيننا يا غبار ؟

_ لماذا وأنت تخرجين وتعودين متى شئت ؟

_ الحياة يا غبار إيقاع مستتر ومتغيّر ، لا تكاد تلمس أوتاره ، حتى يغادرك وأنت ما زلت في حقل السراب

_ إذن ؟

_ لا مجال للبقاء في بيت العنكبوت

  نفرتْ عروق الحصى في أوردة غبار بن المستكين ، ليس لأنه باقٍ على صلصال راوية ، ولكن لاعتبارات كثيرة ، أهمها الانهيار الذي سيصيب مُدخلات النفس أمام أولاده الثلاثة .

  لأوّل مرة تحمل اللغة بين غبار وراوية فضاء غيبيّاً ، إذ أنها المرّة الأولى التي تجمعهما حول نقطة خلافية لا بدّ لها من وقع جهنمي ، فكثيراً ما كانت اللغة بينهما تأخذ طابع المرجل السرطاني ، الذي يعشش في الخلايا ، ويفتك بها رويداً رويداً ، ولكن اللغة الجديدة هذه المرة لا تفضي إلى جمرة السرير ، ولا إلى مساندة الخلايا لفعل المقاومة التي يحتاجها الأبناء ، إنها لغة فائضة عن منطق التحمّل والانزياح .

   رغم هذه اللغة النارية التي استغرقت دقائق معدودة ، إلا أن أحداً منهما لم يتنبه لشامة التي زمّلها الدمع بثوب الكآبة ، وهي ترتجف تحت وقع الانهيار الذي سيصيب آخر ظلّ للشمس . 

         

   في السؤال عن الذات ومنجمها ، وفي مشروعيّة ما يقوم به المستنجد ، تتكاثر معطيات الحيرة والقلق ، إذ كيف له أن يزجّ بأخته شامة في أتون المحرقة التي سيقدم عليها ، وهي بعد لم تتجاوز الثامنة ، كيف لها تقبّل فكرة الإقامة في المقبرة ، ولا شيء يسوّرها إلا الرعب والخوف والأشباح .

   كيف للمستنجد أن يتسيّد الموقف وأبواه على قيد الحياة ، برغم ما فيهما من ذاتية مفعمة بالنرجس ، وكيف له أن يترك ألعابه الوثيرة على قلبه التي نسجها على جدار الوهم في البيت ، ولكنها الأشجار الخريفية التي تساقط أوراقها في كل يوم، إذن هو القرار الصعب ، والتحدي الموشوم بالمستقبل الغامض .

_ هل أنت معي أيها المعتمد ؟

_ ولكنني أخشى عليها من لزوجة المقام ، ووفرة الحزن ، وبكاء أنوثتها

_ ولكننا لا نستطيع تركها في البيت ، وليس لها من مؤنس سوانا

_ ليكن مقامنا نهاراً في المقبرة ، وبياتنا ليلاً في البيت

_ النهار الذي لا شمس له أقسى من الليل أيها المعتمد ، وأبواك لا نهار ولا ليل لهما ، فلنكن لها شمس النهار وقمر الليل

   عندما وصلا إلى البيت كان غبار وزوجته راوية قد غادرا وبصحبتهما رحى الأنفاس التي طبعت على شفاه شامة التي ألقت بكلّ طفولتها وأنوثتها على صدر أخيها المستنجد ، وفي حنجرتها ما يخفف من وطأة الغموض الذي أصاب المستنجد والمعتمد في الطريق .

   _ كُسِرَتْ مرآة البيت أيها المستنجد ، ولم يعد لنا سوى الشظايا ،

   دارت رحى الأنفاس التي ألصقها أبواه على شظايا البيت ، في ذاكرته المتحرّكة ، ضمّ أخته بقوة الزلزلة ، ورقرق دمعتين على وجنة المعتمد، ولم ينبس ببنت شفة .

   في الجانب الآخر للعصف الفكري الذي ما زال رهن أبجدية المستنجد ، ثمة ما يقيه نوائب الذات ، وهي تنفر من أعنتها باتجاه تحطيم كلّ شيء ، فهو وإن سلك طريقاً وعرةً ، إنما بتحريضٍ من الخفاء الذي يلفّ مائدة الحضور الإنساني ، والذي يتشكّل في أقصى تجلياتهِ بلوحةٍ إطارها الرمادي المشبع بالزرقة ، وأبعادها ما يثار في حضرة الزمن من تقلبات ذهنية ونفسية ، فالمعتمد الذي يوشم خديه احمرار الأرجوان ، وشامة التي تقطر أنوثة وكبرياء ، هما الفضاءان الناهدان في تكوّر شمسه رغم تحزّبها في شتات أبويه .

  كظم غيض حسرتهِ ، واختزل دمعه المرَّ الذي لم يفض أمام جبروت العوز في آخر ملعبٍ داخلي  جهزه منذ أن رأى نيران الضمير الغائب، تستعصي على ماء الكينونة ، وهي في طريقها إلى تكديس ما بقي من الأسرة الناعسة في جنبات البيت ، وخطى باتجاه السرير الوثير الذي شهد انعتاق الأجنة الثلاثة من رحم الشتات ، في لحظة انحباس عاطفي ، وهطول المطر .             

   كظم غيض حسرتهِ ، وبكى وحيداً ، ولم يسمع خرير صوتهِ سوى الزجاج المهشّم ، لم يشأ أن يتشظى قمر الدمع على صلصال أخويه ، ليس خوفاً عليهما من الموج ، ولكن خشية أن يتطوّحا في حوامة الراهن ، وهو الذي لا زمن يغادره إلا وقد ألهبه عنفواناً جديداً مبتكراً .

   في الصباح الذي تلا قرمية الطلاق ، نكّس المستنجد صورة والديه عن سارية المنزل ، مضيفاً إلى حطام الكينونة طاقة إضافية للولوج في حضرة النصّ الراهن الذي أوسعه تدقيقاً وتشذيباً ورؤيا ، النصّ الذي لم يغادره منذ أن استوى عوده في المقبرة ، وهو يتسلل إلى كهرباء النائحات اللاطمات .

 

إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x