تكثيف اللحظات الصافية والحرجة في ديوان أرى فرحًا في المدينة يسعى

 


   تتشكل  أرخبيلات  ديوان " أرى  فرحاً  في المدينة يسعى"(1)

من اللحظات الصافية والحرجة في آن واحد،  إذ أن المفردة  تسعى

إلى  جسدها اللغوي،  بكل بهاء وشفافية حاملة معها إيقاعات الرمز،

وما  يحمل  من  طيور تبحث  عن معلقاتها  على الأشجار، أشجار

الإنسان  الحالم  التي تبني  أعشاشها  من مقامات التوحد النامي في

الحدائق الصافية.

 

      وهو لا يراهن على حصر الصور الشعرية في أرخبيل واحد،

بل  يشيع  انكبابًا على  الحواس،  فمرة  تراه يكتب ما يرى، وتارة

يكتب  ما  يسمع،  وتراه  ينهل  من فضاء الحلم ما يعيد به صياغة

الواقع عبر إيقاعية اللحظات الحرجة.

 

" سأوغل في الرمز

هذا الوضوح سيقتل ذاكرة الشعر

تفاحة القلب تبكي طيوراً من العشق

والراهب الحبّ يمضي إلى فرح لا يهبّ

 

أنا الوجع الصعب

والذكريات البعيدة"(2)

 

      وتحتاج  اللحظات الصافية والحرجة إلى مسافات  ومرجعيات،

لا ترضى بالثابت منطلقاً، إنما يعيد لها مهارتها برؤية العارف  بأدق

التفاصيل  التي  تتشكل  منها  كينونة الخروج على المألوف،  حيث

تتماشى  مع  لعبة  الإخفاء ، فحيناً  يتصيّد  الواقع  بكلّ  ما فيه من

انحرافات، وحيناً تراه يميل إلى نقطة الدائرة بكلّ ما فيها من مرارة.

 

" هي الرغبة اآن أم دهشة الشعر من يحتويني

خذيني إليك

عمان تشعل في القلب ناراً

فمن أشعل الحرف؟

هذي البرية أضيق أن تحتويني"(3)

 

     ويستند في بناء نصه الشعري على إبراز العلاقات  القريبة بين

المفردات  التي  يربطها،  ولكنه لكي  يقيم فضاء التواصل الشعري.

يأتي  بإيقاع  ذي  صوت  عال،  يعتمد  على الحركة  داخل السطر

الشعري،  وهذا  مما  يتيح  مجالاً  للمتلقي بأن يقارب الصورة التي

يشاء.

 

" رأيت الصغار يجيئون من ليلة كالحرير

وكنت صغيراً

أنام على شوكة البرد

  يا حلم

يا ملكات الجمال

ويا دهشة الحبّ

لا وقت للوقت

إن الرياح اللواقح تحمل من بذرتي

جمرة للوصال"(4)

 

      ويلبس  رضوان  اللحظات  الصافية والحرجة ثيابها اللؤلؤية،

حسب  ما  يقتضيه  فصل الكلام عن الخطاب،  فتراه  ماطراً  يعيد

للأرض اليباس حياتها، عبر سمفونية تضيء معارج النفس ودفائنها.

 

" أنا لعشب

أعشق صوت الصنوبر في هبة الريح

حين تعيد الطبيعة تشكيل أحزانها

أنا قطرة الطلل

أنداح عند انفجار الضياء

ألخص تاريخ موت القمر

أنا ضجة الحرف حين انكسر"(5)

     ويندغم الحاضر بالماضي، والمكان بسكانه، حتى تتشكل لوحة

كونية  ذات  فضاءات  لونية،  تنم  عن حركة داخلية ذات مقامات

ترابية،  حيث  الحضور  الذي يتمسك بكل ما هو أصيل، من حيث

الالتفات  إلى  بنية  الذاكرة الفردية التي تسعى إلى تهيئة المناخات،

لتنطلق أنا الشاعر باتجاه الأنا الجمعية من خلال مفردات دالة على

مساحة الأنساق الإنسانية.

 

" تناهى إلى البحر صوت بعيد

أنال الأرض والآخرون سبايا

       دعوت إلى القلب عصفورة العشب تسمع صوتي

       تهلّل وجه على القمر العذب

       كانت بلادي"(6)

 

 

  ويتبع إيقاع رضوان الشعري في تحديد ثيمة اللحظات، بلاغة

المعنى  من  خلال الإحساس المتفجر في الواقع المعاش، بحثاً  عن

مسالك  التأثير  بإعطاء  دلالات  واضحة  المعالم،  لكل  مفردات

القصيدة،  وما  تحمله  من  شحنات  نفسية  ومادية، لاستنفار مادة

العمل عرضاً وحركة وانفعالاً.

 

" رأيت المدائن ثكلى بعشاقها

وكان المغنون في زحمة الخلق يتلون أنشودة

للصغار

تجمّع رفّ العصافير في دربنا

ونامت على التلّ عصفورة العشب

أفراحها

ومن يشرب الحلم؟

ومن يخلق المستحيل؟(7)

 

وتشكل خلايا النص الشعري، مرئيات  واقعية  تسندها مرئيات

متخيلة،  تبدأ  بالانتشار  الوصفي،  مرتكزة  على  تأطير  حالات

الفوضى  التي  تدب  في  البنى الحياتية لإعادة هيكلة دينامو الحياة

باتجاه بناء مستلزم الحركة، وتمد الخطاب بأوعية تراثية تحمل في

أغشيتها دماً خالصاً لجهة اتصالها بالأقانيم الثلاثة،الماضي،الحاضر

المستقبل لضمان إقامة صيغ التداخل بينها.

 

" للبحر رائحة

مزيج من أريج الموت والميلاد

قبرة تسافر في الضلوع

قذيفة من ذكريات، وتمسني مسّاً خفيفا

ساحراً كالخهمس أركض من تجاويف

القضية للعصور القادمة

أتجاوز الزمن المحطّم والشراع

يقودني أمل عجيب

والسجائر مدخنة"(8)

 

     واستناداً  على  حيوية النص الذي يستمد عافيته من المعرفة

الخاصة  بمشهدية  الشعر ومفرداته الوسطية، التي تجتاز مجرى الأصابع إلى البحر الذي يسقى منه النص الشعري، تنطلق الذات

خارج اللحظات، لتتبع نفسها.

 

" أنا خارج عن حدود المقاييس

أنا خارج

خارج عن حدود القصيدة"(9)

 

إلى أين ؟ بعد هذا الانحباس في الهزائم.

 

" إلى وطن علّمتني الهزائم سرّ انتمائي إليه

إلى فرح كامن في زقاق الحروف

القديمة"(10)

 

____________________________

1_ أرى فرحاً في المدينة يسعى ط1 عمان 1984

2_ الأعمال الشعرية ص330

3_ المصدر السابق ص328

4_ المصدر نفسه ص340

5_ المصدر السابق ص342+343

6_ المصدر نفسه ص343

7_ المصدر نفسه ص343

8_ المصدر نفسه ص346

9_ المصدر نفسه ص354

10_ المصدر نفسه ص354

 

إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x