ديوان الموتى

 

   انحدرت دمعتان على خدّ المستنجد ، وما سمع بعد بزواج أمّه ، وصدى موت أبيه البطيء دمعتان لقسوة المبيت الذي صدع بأمر أنين المعتمد وشامة، وهما يتقلّبان على ما تبقى من الشوك العالق بجدران المنزل الأرضي ، وهدير الرياح التي تصطفق في موسيقى الرعب مع أوراق الصنوبر ، دمعتان ، وهيهات أن تستردا منازل الطفولة .

  ماذا بوسعه أن يفعل وهو الذي طحنته الحياة بمناجلها ، أيستردّ منازل الطفولة ، أم يمضي إلى حيث منازل الوعد بأن يخترق الممكن وغير الممكن ، أم يكتفي بحالة الشتات نهاراً ، ويأوي إلى البيت ليلاً ، وبه سوف يكتشف ما سترته ورقة التوت في علاقة أبيه مع أمّه ، ولكنه الهواء الأثيري الذي طوى جناحيه ذات حلم ، وقد تربّع على عرش أحلامه سيّداً ، دمعتان ، ولا دمع في مآقي أخوتهِ ، وهما يغطّان في نعاس نحاسي ، ولا شيء إلا الرماد ، الذي تذرّه النائحات اللاطمات نهاراً .

   ومع حومان الريح في جسد الصنوبر ، واقتفاء أثر النفس في صدر المعتمد وشامة ، وبعد أن فعلت الدمعتان ما فعلته من أخاديد طافحة بالألم على خدّه ، نهض المستنجد من زاويته في المنزل الأرضي ، ليطمئنّ على الساحة القريبة ، وخلوّها من الجنّ والأنس ، نهض معفّراً بالحيرة والقلق والذبول ، ولا شيء إلا صدى النائحات اللاطمات،   

     في نفس الزاوية الجنوبية يقع ديوان الموتى ، يجتمعون به ويتسامرون ، ويحللون ما كان من شأن الزوّار وأحاديثهم حول جملة القضايا التي تضغط على أعصابهم ، ويقللون من أهمية النائحات اللاطمات .

   سالم الماضي كبير الموتى ورئيس الهيئة الاستشارية ، جاء إلى المقبرة منذ ألف عام ، طويل القامة ، حنطيّ اللون ، لا يُرى إلا مبتسماً ، يحيط بكثير من العلوم والحكمة ، ولا يتكلّم إلا لماماً ، عندما يختلف الموتى في شؤون العالم الوجودي ، أو عندما يتشاجرون على ورقة توت سقطت عن إنسٍ أو جان.

  جاد الموصل أمين سرّ الموتى ، بعد رحلةٍ فكرية حادة ، حطّ رحاله هنا منذ مائتي سنة ، متوسط القامة ، ذو لحية شقراء مسترسلة كأنها الحرير ، يتقن إيقاع الحياة التي طاردته في مقتنياتها التي انثالت من كلّ حدبٍ وصوب .

   سلطان الجمر حاجب بوابة الديوان ، قذفته نوائب الكينونة منذ تسع سنوات ، قصير القامة ، ذو أسنان مفرّقة ، وشاربين ينحدران إلى أسفل الذقن ، وأصابع طويلة تهرش ما تبقى من قوافل للنمل في ذاكرة الأيام .

  أمّا باقي أعضاء الديوان فهم يتبعون إلى الثلاثة، من حيث الدّوال والصفات وتقارب السنيين ، ولا يتكلّمون إلا بإذن سالم الماضي .

  سنوات طويلة مرّت على المستنجد في منزله الأرضي ، ولم يسمع بالديوان ، ولم ير سالم الماضي ، رغم أنه كثيراً ما كان يتسلل إليه في نومهِ ، سنوات قرأ فيها المستنجد المراحل الفسيولوجية للمعتمد وشامة.

   خرج المستنجد من منزله الأرضي بعد أن شاهد بصيصاً من النور خلف شجرة الزيتون الملاصقة لشجرة الصنوبر ، تقدم وفيه من العنفوان ما يكسر حدة الرعب التي تطال كلّ شيء في هذا الليل ، حتى الكلاب الضآلة ، والموتى الذين يئنّون تحت وطأة الأصوات الآدمية التي تبثّها النائحات اللاطمات نهاراً ، تقدم ، إلى أن أصبح قريباً من النور الذي اختفى فجأة ، ألصق ظهره إلى جذع الشجرة ، نفخ بين يديه ترقّباً ، وجال ببصره في المساحة القريبة ، ولم ير شيئاً ، أخذه التفكير بعيداً ، ربما هو ضبعٌ تاه عن كهفه ، أو قطةٌ أرهقها الانتظار في بيت سيّدها ، فخرجت تبحث عن طعام أطفالها الذين يبيتون تحت صفيح بارد ، ولكن لم يخطر بباله أن هذا الضوء ما هو إلا بريق عيني سالم الماضي الذي يزوره في منامهِ .

  بعد أن أرهقهُ التفكير ، ومسّ في داخله الخيط العصبي للرعب الذي لم يعرف له طريقاً منذ جاء إلى المقبرة، وقبل أن يعود ، جاءه صوتٌ خفيض كأنه قادم من أعماقه :

 _ أنظر إلى قدميك ستجد حفرةً مغطاة بجذوعٍ هرمة ، ارفعها ، وادخل

   ازدادت حدة الخيط العصبي للرعب ، تملكه غثيان الواقع ، وقبل أن يقرر ماذا يفعل ، جاءه الصوت ثانية :

_ ليس أمامك إلا الدخول ، وإلا ستبقى كما أنت متسوّلاً وطريداً تجثم تحت فتات ما تقرره النائحات اللاطمات ، لا تفكّر بنفسك ، فكّر بالمعتمد الذي أعياه المرض ، وبشامة التي أرهقها النضوج المبكر

  انصاع المستنجد إلى الصوت وحكمته ، وبدأ برفع الأغصان الهرمة ، وانكشف باب الديوان ، وما هي إلا لحظات حتى فتح سلطان الجمر الباب أمامه .  

 

  ديوان الموتى صالةٌ كبيرة بلا جدران ، فضاء ممتد ، شيء يشبه غرف الأحلام ، أرائكه من جذوع شجر الصنوبر ، ومسانده لوحات تجريدية، أبوابه الداخلية من قصب السكر ، وكؤوس شرابه من ورقٍ مُقوّى .

   بحذرٍ شديد تخالطه الطمأنينة التي لا يعرف مصدرها دخل المستنجد إلى الديوان ، مستجمعاً في ذاكرة واحدة كلّ ما من شأنهِ أن يقيه محنة المغامرة ورماحها ، فقط ما يشغله في هذه اللحظات ، المصير الذي سيؤول إليه المعتمد وشامة إن حصل مكروه له في هذا المصير الغامض الشفاف ، الغامض في فضاءاته المتداخلة وألوانه التي تشي بالكينونة السرابية ، والشفاف في وسطيته التي تجمع أزماناً شتّى في مكان واحد .

    دخل يتبعه سلطان الجمر حاجب الباب ، وفي صحن رأسه سنواتٍ عجاف من التأمّل في واقع الحال الذي آل إليه ، وفي حراك صلصال أيامه ما هو كائن في هذا الحلم الواقعي .

   بعد أن وصل إلى النقطة الموتورة في الديوان ، قال له سلطان الجمر بحنوٍ لم يعتد عليه :

 _ تفضل واجلس هنا ، ريثما يأتي الرئيس

   الرئيس مفردة ما كانت تخطر في مخيّلته ، فكلّ المفردات التي كانت ترفرف في طواف صلصاله الطفولي ، زوّار القبور ، النائحات اللاطمات ، المقبرة ، البيت المتهالك ، كسرة الخبز ، وبعض النقود التي كان يحترق في مسمياتها ، من أجل أن يرى زغب المعتمد وشامة قد أخذ بالنمو .

   لحظات عصبيّة تشنّجت في مخيّلته وهو ينتظر وحيداً في هذا الفضاء الأثيري ، لحظات استجمع فيها قوّة النيران التي ألهبها الضمير المستتر ذات إغفاءة لم يقو على حراكها ، لحظات هيّأت له مجمل المحطات التي وفد عليها في وساطته بين أمه وأبيه ، لحظات تقدمت به إلى حافة الهاوية ، وهو يحفر في المقبرة منزله الأرضي ، وزمنه القادم من بين ركام الواقع الذي لم يتحرك به العقرب نحو اليمين ولو لثانية واحدة ، لحظات أعادت له نباح الكلاب ، وخشخشة الأوراق الخريفية التي كانت تكظم رعبها خلف سور المقبرة ، لحظات جمّعت له رجولته المبكرة أمام الحُمّى التي أصابت شامة ذات ليل عاصف ، والإغفاءة التي تجرّع فيها المعتمد سمّ الأفعى ، لحظات ، كظم فيها حزنه وخوفه وألمه ، وهو يسعى لاكتشاف العلاج الذي وجده في عشبة ذات أشواك غرزت في باطن قدمه .

   ما كان ليخرج من ركام اللحظات ، لولا صدى الصوت الذي فاض في أذنيه ، من حاشية سالم الماضي الذي دخل متكئاً على عصاه ، وهم يتمتمون بكلمات لم يفهمها .

   حاول الوقوف خوفاً وطمعاً في زيادة حدة الطمأنينة ، ولكنّ سالم الماضي وضع يده اليمنى على كتفه ضاغطاً بها إلى الأسفل ، إشارة إلى أن يبقى جالساً ، وتابع سالم الماضي طريقه إلى الأريكة المخصصة التي صنعت من جذوع شجر الصنوبر .

   وبلهجة لا لبس فيها قال سالم الماضي :

_ أنت في حضرة ديوان الموتى أيها المستنجد ، ولا باس عليك

وقبل أن ينبس المستنجد ببنت شفة تابع سالم الماضي لهجته التي لا لبس فيها :

_ ديوان الموتى هو المكان الذي يجمع أزماناً مختلفة ، وقد دعوناك هنا لتكون شاهداً علينا ونكون شاهدين عليك ، وقبل أن نعقد هذه الصفقة، دعني أعرفك بهيئة الديوان ، أنا سالم الماضي جئت هنا منذ ألف عام ، تركتُ قومي وهم منشغلون بالفتوحات ، ولا أثر فيهم للقنوط والعزلة، صيحة واحدة كانت تكفي لينتشر الحصى في عيون الماء ، وإشارة واحدة كانت كافية لتغيير المنطق ، وتسخير المستحيل .

  وهذا جاد الموصل أمين سر الديوان ، ترك قومه منذ مائتي عام ، بعد أن رأى فيهم ضعفاً وهواناً ، وبعد أن أصبحت أوراق التوت تسقطها لوثة الفكر ، وبعد أن ضاقت الأرض على قومه بما رحبت ، تركهم وهم منشغلون بالحفاظ على ما تبقى لهم .

   أمّا سلطان الجمر حاجب باب الديوان فهو قريب العهد من لحظات بؤسك وذبول الضمير المستتر ، لحق بنا منذ تسع سنوات ، بعد أن أطلق عليه قومه تسع رصاصات نفسيّة ، وربطوا على فمه ، وألقوه في غيابة الجبّ .


إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x