الاشتغال على الذات

 

                                     الفصل الأوّل

 

1 _ محور الذات \ الواقع

  ما من تجربة حياتية إلا ويكون منطلقها البدئي الذات، الذات بكافة مفرداتها، الخاضعة للحكاية النفسية التي تفرض عليها تتويج الكلام بالحيّز الضيّق الذي  لا يتعدى منزله الأوّل الصلصال والروح 


 ولكنها مع هذا تتفلت أحياناً من حيّزها الضيق، وتتجه إلى خلخلته عبر وسيلة الأقنعة،  لكنها تبقى مرتبطة بداخلها الكامن في كثير من المعطيات الدالة على خضوعها لشروط الواقع، فتبدو متشنجة وقابضة على الآخر قبضاً قابلاً آنيّا.ً
    تتيسّر للذات جملة من المتغيّرات تستطيع من خلالها القبض على       ماهية الاشتغال، ومع هذا تبقى تتجاذبها بؤر المؤثرات، فتختصّ في معترك تناولها للنصّ، بواقعها المأزوم والمتأزم، المأزوم بالأنا الطازجة غير المتصلة بالحضور الجمعي، والمتأزّم بالموروث الدلالي لهذه الأنا،لهذا تبقى في مراحلها الأولى خاضعة لحضور الحاضر وإفرازاته ومؤثراته.
    وفي هذا الإطار سعى كثير من الشعراء لتناول الذات كونها المحرّض الرئيس للفعل الإبداعي، غير عابئين بما هو محمول على كينونة النصّ الذي   يسعى  بدوره  للعمق، لا  القشرة، بمدلولها  اللحظي  الذات،  مستسلمين
لهاجس البدايات، وما  يمكن  أن ينتج  عنها  من  متغيّر حركي للتجربة في
مساحاتها القادمة، وتاركين لمراياها حقّ التصرّف بالواقع كما تراه على شاشة البياض والسواد.

  2_ محور داخل الذات \ المتخيّل

 
    تنتج البنية الشعرية في حركة احتكاكها مع  الواقع، جملة من المعطيات   التي  تسحب  العملية  الشعرية،  إلى  أبعاد جديدة  في التماس الشعرية، من
منطلق أنها واقعة في إطار المحايثة الفعلية لكلّ مولّدات النصّ، وهي إذ تبدأ من الواقع في محاولة لتجسيد القدرة على الاتصال بالأدوات والرؤية البصرية، وما ينتج عنها من حساسية تجاه الأشياء، تحاول أن تعزز موقعها الفكري من الأشياء ومعطياتها وما ينتج عنها من مغايرة قادرة على النفاذ إلى  عمق البنى النفسية  التي  تحيط بالذات، وإذا كان الاشتغال على  الواقع في المنظور البدئي للتجربة، يعتبر عنصر تحريكي موصل لهذه الحساسية أو تلك، فإن  هذا الاشتغال  سرعان  ما يتجه  إلى توليد محرّكات غير منظورة من زاوية المتخيّل، ولكنّ اللغة في استنباطها لما هو كائن في الموروث، تجعل الرؤية أكثر وضوحاً لهذا المنتج الشعري أو ذاك  بناء على الإحالات التي يتناص معها الشاعر في عملية التوصيل والإمداد والتنقيب عن أوجه الشبه التي تحيل المتلقي إلى زاوية الرؤيا، إنّ مثل هذا التجسيد والتناص يعزز قدرة النصّ على البوح، ولكنه  بوح متخيّل غير  مكشوف،  أو  لنقل إنّه بوح كلام مُخْتَزل عانى كثيراً من قيود الداخل، وقيود الخارج، لذلك تتراءى الذات أمام مرايا التجسيد والتناص وكأنها غابة من اللغة.
 

3_ محور ما وراء الذات \ التخييل

  لكلّ فعل شعري قامة تنحاز إلى منتجها الذاتي، ولكنها في اتصالها مع مراحل التجربة، لا تستكين إلى هذا المنتج  لهذا فهي في سعي دائم إلى تحريك جملة المؤثرات الضاغطة على الكينونة، لغايات الوصول إلى مرتبة زئبقية تحمل في جعبتها صفات الحياة المرنة، والقادرة على اختراق حاجز الزمان والمكان.
   الوصول إلى هذه المرتبة يدخل في سياق التفرّد، وهو محكوم بجملة من   الشروط، أهمها الإمساك بخيوط التبادلية الشعرية الخاضعة لكلّ المؤثرات، وفق ضوابط صارمة، تبدأ من النقطة وتدور وتعود إلى أبعاد النقطة، ولكنها عودة ذات بؤر ارتكازية، فضاؤها المحيط، وهيكلتها الدائرة.
 مثل هذا الانتظام في خيط التبادلية الشعرية، هو القادر على إقصاء ما لا يلزم، من الثوابت والمتغيرات التي تقوم عليها البنية الشعرية، وهو الناظم الرئيس للحساسية التي تتجاذبها الحواس في مسيرتها لخلق نصّ شعري متجانس.
   كما أن الوقوف على هذه التبادلية هو المؤشر الحقيقي للولوج إلى منطقة الوسط الشعري، العاكس والمنعكس عن الذات وما وراءها من منبع تخييلي يقوم عليه الإسناد اللغوي ومدلولاته، وهو الرافد الذي يتحسس شعرية الأشكال عبر استنطاقها لكلّ بنية لغويّة وإيقاعيّة.
 

4_ محور شعرية الحركة

 
   إن الشعرية المتحرّكة وفق هذا الاستنطاق، تعتمد على الأيقونة المعرفية للنصّ، بأبعادها المختلفة، كالاجتماعي، والسياسي، والجغرافي، والتاريخي، والثقافي الذي يحدِّدُ مسارات التشكّل الأيقوني، إلى غير ذلك من المعطيات الفضائية للإنسان الكائن في خفاء النصّ، لذلك نرى ونلحظ أنّ المستوى البنائي الأول للنصّ " المسودّة " يقوم على الحشو، إذ يعتقد الشاعر أنّ المعرفة، معرفة وجهة الفكرة هي التي تقود هذا المستوى البنائي، لكنه عندما يتحسَّس جهة المعرفة، يدرك أنّ هذه الأبعاد ما هي إلا مؤشّرات للتحوصل حول جزء نقي من الأيقونة، لحظتها يتقلّصّ النصّ الكتابي، ولا أقول الشعري في هذه المرحلة، ليستتب الأمن المعرفي في مواجهة المتغيّرات التي تطرأ على الفكرة، وتنتقل حركة الجزء الشعري الخاص باللغة، حسب النمط الحركي الموضوعي، في سعي دائم للتمحور حول ظاهرة النصّ الكلّي، لهذا لا تبقى اللغة كياناً حاضناً للخواص النفسية الشعورية التي تتقدّم كل فعل تخيّلي، بل تتحيّز في جملة إنشاءاتها إلى الذات، استناداً إلى أنّ الذات في النصّ الشعري، هي ذات فاعلة منفعلة، كاشفة ودافعة، حاضرة في السرد الشعري، وغائبة عن متن الكلام، ويعضد هذا التمحور
 
 
سعة الانقطاع عن الواقع، لأنّ شخصيّة النصِّ هي شخصيّة دلالية متعدِّدة ذائبة في مجموع الذوات الشعرية التي تتقاطع مع الذات المطمئنة، ذات الشاعر والنصّ المحبّر معاً، إذن نحن أمام هيكلة غامضة في كثير من معطياتها، واضحة في أنماط الحركة، غير بعيدين عن هيكلة الجسد الذي تتداعى لهُ سائر الأعضاء بالسهر والحمّى، فالنصّ العافية هو النصُّ الذي أصله من تراب، ومآلهُ إلى تراب، وبعثه من تراب، ومجموعها قيمة الحركة التي تبدأ من نقطة، وتشتغل على نقطة، وتعود إلى مركز النقطة في دائرة الحياة أو الموت.
 

إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x