مرايا صاخبة في حضرة " ديوان العرب"

مرايا صاخبة في حضرة " ديوان العرب"








1-                الاستجداء الشعري في بلاط الأعطيات



   لا تكاد تتوافر كلمة على سياحة النقص في العلاقة الناشئة بين الشعراء والآخرين ورعونتها، كما هي حال كلمة" استجداء"، تلك الكلمة التي تبخس ذات الشاعر أسماءها وصفاتها وعلوّ شأنها،  لما تحملهُ الكلمة من مرادفات تستأنف النفس لعبة الوقوف على عتباتها، من مثل: استرحام، استعطاف، تسوّل، شحاذة، وغيرها من المرادفات الدّالة على ما يعانيه الشخص من ترهّل فكري ووجداني، يكاد يصلّ في مراتبه الدنيا إلى الانكباب على أبواب الآخرين، دون البحث في أضداد الكلمة، من مثل: إثراء، استغناء، غنىً، منْح، وَهْب، وغيرها من الأضداد التي تمنح النفس منازلها التي دُونَها كلُّ شيء.
    الحفر في هذه البنية حفراً موائماً لكلّ ذي لُب، ومؤاتيا لكلّ كينونة جُبِلَ عليها الشعراء، واقعاً ومُتخيّلاً، يستظهر معطيات الحدائق المعلّقة بين كلماتهم، الحدائق التي تفيض بهجة واخضراراً، ويصدح فيها هديل الحمام، وتتأنسنُ فيها الورود والأطيار، كلُّ هذا وهم ينزعون إلى تأصيل وتجذير فكرة الخلاص، وفكرة الاستواء مع أنفُسهم المجبولة على التجديد والابتكار، وعدم الركون إلى موائد " الغير"، مهما تعددت الفواكه، ألواناً ومشاربَ، ومهما تصالحت الأنفس مع الأعطيات لحظة تمرين خاطف للخروج من البؤر الضيّق، والأنفاق المعتمة، والسواحل المنزلقة عن بحرها المتلاطم الأمواج.
    يرى بعض النقاد العرب القدماء أن للشعر ثلاثة أوجه، الغنائي الوجداني الذي تتحرك فيه الطبائع، وتصهل فيه خيول القلب، فينفث من خلال مزاميره بعض تلويحات الحنين والاشتياق والجمال، والقصصي الذي ينتمي إلى الإنسان وأرضه وقومه، ويُقدَّم هذا الانتماء كمسرودة قصصية تنتظم فيها مكابدات الوقائع، فينقل شاعرها على لسانه كلّ المفاخر الوطنية والقومية، والتمثيلي الذي يصوّر واقعة ما مع شخوصها وما جرت به هذه الواقعة على أيديهم.
   بناء على ما سبق، كيف نحدد معالم المديح بعيداً عن الاستجداء ومرادفاتها، إذا ما تجنّبنا الدخول في فكرة تأصيل الشعر التمثيلي، الوجه الوحيد الذي حوى لفظة " الشخوص"، فالوقوف على حدوث واقعة ما، يلزمنا الوقوف على شخوصها، وبالتالي استنطاقها للحديث، ليأتي الكلام بيّناً واضحاً على لسانها، والشاعر هنا ناقلٌ للكلام، وليس فاتحاً لمغلق الحديث، ومرشداً لبوصلته، وليس نافخاً في روحه مما ليس فيه، لنتأمل المثال التالي:
    رأى الشاعر " زهير بن أبي سلمى" كما ورد في كتاب " المدح في الشعر العربي القديم" لمؤلفه د. محمد شرفبياني، فَضْلَ " هرم بن سنان" و " حارث بن عوف" في حسم النزاع بين قبيلتي " عبس وذبيان" الذي دام أربعين سنة، وأنتج لكلّ منهما أضراراً فادحة، وشاهد ما قاما به في إطفاء نائرة الحرب، وما تحملا من أعبائها بأموالهما في دماء القتلى، وكانت ثلاثة آلاف بعير، أعجب بشخصيتهما وتأثر عميقاً بمساعيهما الحميدة، وامتلأ قلبه وصدره بعظمتهما، فهاجت قريحته وماجت عبقريته، فمدحهما بقصائده الرائعة ومدائحه الخالدة، حيث يقول: تداركتما عبساً وذبيان بعد ما، تفانوا ودقّوا بينهم عطر منشِمِ، فأصبح يجري فيهمُ من تلادكن، مغانمُ شتى من إفال المُزنّمِ، يُنجّمها قومٌ لقومٍ غرامةً، ولم يُهريقوا بينهم ملءَ مِحجمِ".  
     إذن الشعر التمثيلي ليس واقعاً في سلّة المديح، إنما في بريّة تحتمل أرضها خطوات المديح، وهو ما قاربهُ شعر مديح الشعراء عبر العصور، في مدح الخلفاء والأمراء، وبعضاً من الشخوص الذين جرت على أيديهم واقعة تستحق أن تُذكر لتماسها مع واقع الآخرين وحياتهم، وليس اقتصارها على أصحابها، حتى ذلك المديح الذي تغلغل في بعض النصوص التي نسجها أصحابها من الشعراء فيما بينهم، وهم في مجالس السّمر، أو في مضارب الخصومة، فكانت القبيلة تأتي ضمنياً ضابطةً لإيقاع المدح.
    في عصرنا الحالي، ثمّة بلوى شعرية إذا جاز التعبير، تطلُّ برأسها، وهي تعيش على " أحسن الشعر أكذبه"، هي مارقة في عصب الأمسيات التي تدور رحاها بكثرة في أيامنا هذه، فإذا ما أمعنا النظر في عباءتها، نجدها تعبر في نفق التوجّه الخالص للشخص، وتكريسه، وتقدّمه على الوقائع الجمعية والواقعة الفردية التي تتأنسن بما تقدمه لتخرج من فضائها الضيّق إلى طقوس الأمة، وكأنها تعيدنا إلى زمن البحث عن الصنمية، ميزانها الاستجداء، مكشوفة الرأس، مُغبرّة الجبين، كسيرة الجناح، لا تطير إلا في مرايا صاحبها، ولا يشفعُ لها ومعها، إلا صاحب هوىً.
    أنْ تُكرِّس الشعر بحثاً عن صيغ تشكيلية تتقدّم من خلالها إلى شحذ الهِمم من أجل قضية كبرى تخصّ المجتمع، ولو كان مركزها شخص واحد، يحتاج منك إلى الإمساك بلجام الكلمات، وتحسين بؤرتها الائتمانية، على أن تكون غايتك قراءة وِرِدِ المسافة الفاصل بين المديح من أجل الأعطيات والالتفات إلى المُعطي، وبين المديح الذي يجعلك تعلو مع هذا العلوّ القادم من فضائل الشعر وأحقيّته بالخلود، فأنت في الواجهة الأولى ستدوّن اسمك في سجلات الغياب، أو على رأي عبد الحليم حافظ في أغنية قارئة الفنجان" من يدخل حجرتها يا ولدي مفقود مفقود"، لأنكَ، كنت منصاعاً للغلو والإغراق والمبالغة والنفاق، وهذا ما يأنفهُ الشعر الصافي الموغل في شعريته وشاعريته، فيما سترى نفسك محموداً في الواجهة الثانية، لأنك جعلت من قصيدتك شاهد المسبحة وخيطها الناظم، لحظتذاك، ستعيش قصيدتك ملأى باللآلئ والجواهر.
    يرى بعض روّاد الأمسيات الشعرية، بأنّ غاية المدح في الأمسيات الأدبية عامة، والشعرية خاصة، لا تقتصر على قصيدة تقال، أو كلمة تصاغ، في مسؤول ما، أو صاحب أعمال خيرية، أو راع لأمسية شعرية أو مهرجان، إذ لم تعتد تقتصر على إغراءات الصور المُحسّنة للممدوح، وتوجيه البوصلة إلى مرونته في التعامل مع المجتمع، أو استحيائه من عطائه الذي كُشف في ليل، بل ذهبت بعيداً في ليّ عنق الحقائق، والتقرّب زلفى إلى الأمراض الخفيّة التي تتراسل حواسها مع كلّ أعطيةٍ تنثر في أودية الحياة التي ضاقت بساكنيها، فأصبح المدح "موضة" تنشر غسيلها على منابر كان الرعيل الأول يعدُّ العدّة إذا ما دعي لإحياء أمسية هنا وأمسية هناك، كما أصبحت مادة للتّندُّر بين الصاعدين إلى أعالي شجرة الإبداع.
     ويضيف مبدعون، ممن أسعفهم حضور الكلمة التي في قرارٍ مكين، بأنّ القصيدة التي تحتفي بالمدح، عليها في طريقها إلى ذلك، أن تحتفي بالجمال قبل كلّ شيء، وبالتجديد والابتكار، والانفصال عن بنية اللغة القاموسية الجاهزة، وعليها في طريقها إلى ذلك، أن تستنهض البنية النفسية للمجتمع، وأن تقف على حواصل الطيور، وأن لا تغدو كونها نموذج إرسال لطلب ما، تعبئه وقت الحاجة لوظيفة أو طلب معونة، وعليها، أن تتصفح بنية النص، ولا ترهقه بالمحسّنات الظنية للألفاظ التي تخدش السليقة الفطرية، أو تخرج عن كونها نصاً إبداعياً قبل كلّ شيء، وبغير ذلك لا تخرج عن كونها استجداء شعرياً في بلاط الأعطيات.
    لا يخلو شعر المديح الذي يُساق من حبائل لغته إلى موائد الأعطيات في هذه الأيام، من النظم الفجّ، واللغة المتهالكة، والصور الفاضحة التي تدنو من حجرات الزيف، كما لا يخلو من تقعُّر البيان، واستهلاك المفردات، والوقوف على الموسيقى الصاخبة، والقافية التي تنتظر الجمهور، وهو ما يجعل البناء يتسمّر في حلق الصوت، فترى صاحبه يقف حيث لا مبرّر للوقوف، ويعلو حيث لا معنى للضجيج سوى الاستعانة ب " صديق"، ويقتفي أثر حركة الجسد، حيث لا  بنية درامية تستدعي ذلك، ويذهب إلى كأس ماء، فقد تبلل ريقهُ من ظلمة المعنى وبرودة الحقْ.


2-                مخاض جديد عالق بالنفاق




   الإهداء، ضَرْبٌ من المدح، وليس بالمديح، واقع بين اقتصار السبب عن آليات اللعبة من لدن المُهْدي، واحتباسها في جعبة المُهْدى إليه، وحافظ فجاجة الوقت، ومدلج الأيام بنواصي الخيل المعقودة على ردّ الجميل، ذلك المعنى الذي لا يسبر غور الكلمات التي تتفتّق عن حيلةٍ محبوسة في قمصان الشاعر، وتسعى إلى رتق أيامه المقبلات، خاصة إذا هطلت من الريح العليا إلى الزوابع الدنيا، مخاض جديدٌ عالق بالنفاق، يكشف عورة الانزلاق إلى أمكنة غير صحيّة، أمكنة فيها يُبرَّر ما ساء من فِطرةٍ القول، خاصة إذا ظهر في مأثوره ما ليس منه، يجاوز المعقول، ويقذف المنقول، ويلوي الأعناق، ويبخّر الأذواق، ضَربٌ من المدح، فيه ما ليس ينظره الممدوح، يقولّبهُ كيف شاء، ولو كان مفتقداً لغرابيب سود، يُخرج الشاعر عن وقاره، فيصبح مخمور الحال، فيعود إلى مربعه البائس، ليخرج بعد حينٍ بإهداء مماثل، ربما يستطيع من خلاله رسم صورته الحقيقية التي أرجفها الإهداء في لحظة توهان، فخالطها شيءٌ من النّفاق، إذا ما استطاع إلى ذلك سبيلا.


3-                النصّ العابر للأزمنة 



    " الجمهور عايز كده"، لعنة أصابت الشعر بمقتل، فالأمسيات التي تقام عرض البلاد وطولها، وسواقيها الأسماء ذاتها، منذ عشرات السنين، لا جديد فيها، على مستوى النص، أو التجديد، أو الابتكار، أو لنقل محاولة ذلك، فالنص محمول على بساط الأزمنة، كتبه الشاعر منذ سنوات خلت، يحمله أينما حلّ أو ارتحل، يقرأه بحجة أن " الجمهور عايز كده"، وفي أحايين كثيرة يطلبه أحد أصدقاء الشاعر على عجل، لينقذ صاحبه من الإحراج الذي ربما يتعرض له من قبل أحد الحضور الجادّين، وإذا ما درسنا تجربة هذا الشاعر أو ذاك، ممن يحملون النص القديم في جيوبهم، سنجد أنه لم يأت بجديد متنوّع من ذلك التاريخ، أو أن النص قد كًتِبَ له، أو أنه لا يملك سواه، أو أنه ليس بشاعر على الإطلاق، وإنما كان عابر سبيل أقنعه أحدهم بشاعريته التي لا يؤتى من بين يديها ولا من خلفها.

4-                جمهور الضياع الشعري



    الفاعل الوحيد الذي يستدرج الشاعر حيواته كلها من أجله، والناطق الرسمي باسم هذا الملاك الذي يسمونه الشعر، والناقد الأجود، والقاضي المخوّل بالحكم، هو الجمهور، هذا المحيط الهادر من التوقعات التي ينتظرها من يصعد المنبر، والغابة التي لا يعيش معها وفيها إلا الأسود، ما الذي يدفعه للوقوف على عتبات هذا الضياع الشعري، وما الذي يمتلكه من أدوات قادرة على التمييز بين "السمين" الذي يخدم الجمال و"الغثّ" الذي يُلقى في السلال.
     أن تأتي، وتخسر من وقتك ساعتين، لحضور أمسية شعرية، هذا مدعاة للفرح، ومدعاة للقول أننا أمّة تقرأ، ولكن أن تأتي من أجل غزالة ممشوقة القوام، وصاحب تشرب القهوة معه في مقاهي الحياة، وتبجّل الغثاء، وتلعن الجمال حتى ولو لم تتفق مع مظاهر لغته التي ربما احتفلت بالغموض الفني أو استلهمت أساطيرها التي لا وقوف لك على آثارها، فهذا مدعاة للخسارة، خسارة قميص يوسف الذي جيء عليه بدم كذِبْ، وصار دواء ليعقوب فيما بعد، وخسارة لذاتك المعمورة بالجمال الفطري الذي فُطِرت عليه النفس البشرية، ومدعاة للفساد الثقافي والإبداعي، وحجر عثرة في طريق الإبداع والمبدعين الذين يصنعون الأمل، ويحترقون من أجلِ أن ترى ما لا يُرى، ويفتحون مغاليق اللغة وحيواتها، فانظر يا رعاك الله.

" ما هكذا تورد الإبل" قراءة في زيارات" الثقافة" المكوكية



   ربما تُذعِن المدينة لخضرتها، وهي تتأمّل شاعراً ما، أو مبدعاً طَرَق أسرار قشرتها الأرضية، وانتحى جانباً ليلتقط معادنها النفيسة في الباطن المتحرك، وفق أبسط القواعد الهندسية، أو أصعبها تعقيداً، غير أنها لا ترى في مكوكية الحركة التي يُنشئها المسؤولون على أرضية الميدان، إلا ذلك الصّيد الذي يرصده مصوّر جاء منتشياً بعين كاميرا هنا، وكاميرا هناك، ليلتقط مساحات رمادية لفضاء أبيض، يَعْبر مَرْجل الزمن، ليخلّد اللحظة البائسة.
    المفارقة العجيبة في ديمومة هذه الحركة، وما يرافقها من زخرف القول، تكمن في ذلك التضاد الهائل في حركة المسبار الذي ينطلق من قاعدته، ليعود محملاً بكمّ هائل من المعلومات بعد أن يخترق جملة من الحجب التي رصفَ أقمشتها القائمون على الفعل الميداني، ليجد المسبار أوعية "خائرة القُوى"، لضيق اليد، و "ذوات" استفحل فيها الصوت، لعدم اكتمال الرؤية، واندثار الفعل في بنيتها لأسباب كثيرة، أهمها، غياب الفعل المؤسسي في كثير من مؤسساتنا، وارتهانه لحسابات "القادم" أو"الراحل" مع كلّ هبّة ريح تطال هذه المؤسسة أو تلك.
   منذ أن أصبح المعنى الصامت يترجّل مع كلّ تشكيل وزاري عن برجه العاجي، وصار مادةً يستنسخها كلّ من أراد أن يستزيد امتلاءً، ومنذ أن أصبحت العلاقة بين الهيئات الثقافية في المملكة ووزارة الثقافة مفتوحة على " أريد" من قبل الهيئات، و " وفق الإمكانات" الإجابة المثلى للوزارة، ومنذ أن غاب الوجه الحقيقي للعلاقة السويّة بينهما، بدأنا نرى زحف العناكب على بنية الفعل الثقافي، الزحف المترهّل الذي أصاب جوهر الإبداع بمقتل.   
   يلفت عدد من المبدعين إلى أنه مع كلّ زيارة ميدانية، تتجدّد المماحكات والمشاحنات، تتجدّد بؤرة اتساع الهوة بين حقيقة المثقف وبين وهْم المثقف، حقيقة المثقف المشغولة بأهداب العين، ومرارة الانتباه لأدق تفاصيل الحياة، الحقيقة التي تراهن عليها الأمم الحضارية، ووهم المثقف المستند على رماح الوساطات، وملء الفراغات، وانتظار الأعطيات، بعد الغياب القسري والقهري الذي مورس على فضاء المبدع وأجندته.
   وينوّه آخرون ممن عايشوا الحراك الثقافي في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، بنبض التشكيل الثقافي الذي كان حاضراً آنذاك في فسيفساء العمل الجمعي، رغم قلة عدد الهيئات الثقافية، حاضراً في تشكيل حركات ثقافية وإبداعية متجددة، إذ كنا نتحسس ذلك التكامل العضوي الذي تحدثه الهيئة الثقافية في طريقها للوقوف على المنتج الإبداعي وصاحبه، وكنا نتلمس الاهتمام الجماهيري الكبير الذي كان يسعى لحضور الأمسيات والمؤتمرات الإبداعية،  غير أن ذلك كله أخذ بالانحسار، بعد جملة القوانين الناظمة لتأسيس منتديات وجمعيات بالجملة،  أدّت إلى تشظي الفعل الثقافي بأنواعه، وجماهيره، وبعد أن تآكلت الموارد،  فبدأنا نرى الزيارات المكوكية التي يقوم بها الوزراء للوقوف على متطلبات العمل الميداني، لمعالجة الخلل الذي أصاب بنية العمل الثقافي، فتأمّلنا خيراً، غير أن هذا التأمّل سريعاً ما ذهب في قمصان الروتين، بعد الزيارة الثانية، والتي أعادت طرح ما كان في سلّة الزيارة الأولى، دون أدنى نظر إلى أجندة الزيارة الأولى، وهكذا، أصبح معلوماً لدى العامة من الناس، وربما النّخب الثقافية، أهداف الزيارات المتكررة، والأسئلة التي تطرح، والإجابات المعدّة مسبقاً.
   ويتعجّب عدد من المشتغلين بالشأن الثقافي، من الأسئلة التي ترافق طلبات الهيئات الثقافية، التي تتمحور غالبيتها حول نفس المحور، عند كلّ لقاء مع وزير ثقافي مع الهيئات الثقافية في المحافظات، والإجابات التي يدلي بها الوزراء، لافتين النظر إلى عجز البنية التشكيلية التي تربط الوزارة بقاعدتها الميدانية، إذ ليس من المعقول كما يقولون، أن تبقى الأسئلة والطلبات الخاصة بالشأن الثقافي ذاتها منذ أعوام مضت، هي نفسها التي يطرحها القائمون على الفعل الثقافي الميداني في عامنا هذا، وليس من المقبول أيضاً أن  تأتي الإجابات في عامنا هذا، نفس الإجابات التي أفرحتنا قبل أعوام مضت، والتي توسّمنا فيها خيراً ورافداً للفعل الثقافي، غير أن الكرّاس الذي كتبت عليه الأسئلة والطلبات والإجابات رَحَل مع رحيل الوزير، أو رُحِّل إلى حين عودته مع تشكيلة أخرى لوزارة أخرى.
   بين طاقة الوزارة ومواردها، الرسالة التي يحملها كلُّ وزير في جولاته، وبين حقّ الهيئات الثقافية، لسان حال الكثيرين من رؤساء وأعضاء الهيئات الثقافية، استنسختْ الزيارات، كما يرى عدد من الذين وقفوا على أكثر من زيارة، حتى صار للمتبصِّر الوقوف على الأسئلة وأجوبتها، مع تغيّر الوجوه، والأمكنة، فكيف يُعقل أن يفي وزير  بما تقترحه الهيئات التي ناهزت 700 هيئة في ربوع الأردن،  التي غالباً ما تتركز على أجرة المقرات، كيف له أن يفي بذلك، وما تحت تصرفه لا يكاد يغطي شؤون وزارته وأعمالها، بالمقابل، ألا تستطيع الهيئات الثقافية ممارسة الضغط على القطاع العام، لكي يتحمل مسؤوليته بدعم الحصن الأخير لهذه الأمة، أو الذهاب إلى برامج ربحية تغطي جانباً من الجوانب الضاغطة على هذه الهيئات، أو الذهاب إلى دمج الهيئات ذات التخصص الواحد، كأن تدمج الهيئات التي تقوم على الأدب وفنونه في جمعية واحدة، والتي تقوم على الفن التشكيلي في ملتقى واحد، وتلك التي تُعنى بالإيقاع المجتمعي، كالتراث والمأكولات الشعبية وغيره، في منتدى واحد، لنصل إلى جمعية  واحدة متخصصة بالأدب، وأخرى بالفن، وثالثة بالتراث، لنذهب بعيداً في تقليص عدد الهيئات، ليصار إلى تأطيرها في مائة هيئة متخصصة مثلاً على مستوى المملكة بدل سبعمائة هيئة.
   ويتساءل آخرون، ما الداعي لزيارة الوزير إلى قاعدته وروافع وزارته؟، هل للوقوف على معوقات هذه الروافع، أم لغاية في نفس يعقوب، أم أنّ البرامج المعدّة وزارياً تتطلب ذلك، وما الداعي لأنّ تبقى العلاقة بينهما، مشوبةً بطرح الأسئلة وتلقّي الإجابات، الأسئلة التي أصبحت مثار تندُّر، والأجوبة التي أصبحت واقعاً بيّنا نراهن على أنّه لا يتعدّى كونه " هكذا تُورد الإبل"، وما الداعي لأنْ يُخرِج رؤساء الهيئات الثقافية قصاصة الورق التي كُتبت منذ التأسيس، نريد دعمكم، وعليكم تلبية ما نريد، ألم يفكر هؤلاء بنجاعة الدّمج التي سوف تجعل الهيئات الثقافية تعيش في بحبوحة المورد المالي أولاً، وتكاتف المبدعين ثانياً، وتجانس الأعضاء إبداعياً ثالثاً، وخلق جمهور عريض ينتشي به المبدع رابعاً، بعد أن تآكل هذا الجمهور وأصبح لكل هيئة جمهورها الذي لا يتعدى أصابع اليد الواحدة.
     الحجّج التي تسوقها الهيئات الثقافية عند سؤالها عن تردّي الحالة الثقافية للأنشطة التي تقام على مدار اليوم، هي " المورد المالي"، وعند سؤالها عن غياب الجمهور، تتوقف الألسن عن مدار الإجابة، لا لشيء، كما يؤكد عدد من الذين خلدوا إلى بيوتهم من المبدعين، إلا لأنّ تأسيس الهيئات جاء إمّا عشوائياً، أو لمصالح ضيّقة لعدد من الأشخاص اختلفوا مع آخرين على المناصب أو على نشاط ما، وإذا ما دقّقنا النظر في الهيئات العامة التي تتكون منها، سنجد أنّ الواحد يحمل في جعبته أكثر من عضوية، فهو عضو في هيئة أدبية، وأخرى تشكيلية، وثالثة فنية، وربما عضوية أخرى في جمعية لحفظ التراث، ولا نجانب الصواب إذا ما قلنا عضوية نادي رياضي، فما الداعي لهذا التشتّت الذي أحدثه قانون الجمعيات الذي يجيز لسبعة أشخاص، وربما يكونوا من " عائلة واحدة"، تأسيس هيئة تضاف إلى هذا السيل الجارف الذي يجتاح مدارج الهوية الثقافية، وهو لا يملك مقوّمات الجريان في الينابيع الصافية.
   يرى كثير من المبدعين على مساحة الوطن، أنّ الزمن يسير بسرعة الصناعات الذكية، فإذا توقفنا عن تتبع مساربه، وموازاة شرارته التكوينية، ولم نشتغل على تحصين الثقافة " الحصن الأخير للأمة" من التجاذبات الشخصية، والتشظي، فإن قطار الحياة المشمولة بتأملات المبدعين خاصة، والمجتمع عامة، سيتوقف عند محطة التفريخ التي أنشأها قانون الجمعيات الذي وضعنا أمام يافطات عريضة عند كل شارع، تؤشر على هيئة هنا، وهيئة هناك، القانون الذي وضع مخرجاته في سلّة العائلة الواحدة، والشخصنة، والرؤية الفاقدة لمشروعها الحقيقي، بعيداً عن الصورة الأبهى للوطن الأجمل الذي يحتاج منا في وقتنا هذا إلى أن نكون يداً واحدة، أو أعواداً مجتمعة في حزمة واحدة، يصعب كسرها.

المقال السابق
المقال التالي

كُتب بواسطة:

0 Comments: