بين المُتخيّل الصحراوي وحداثة المُتخيّل

بين المُتخيّل الصحراوي وحداثة المُتخيّل


   ماذا يريد الشاعر؟، وماذا يريد المتلقي؟، وماذا يريد النصّ الشعري؟، وللإجابة على هذه الأسئلة المتجددة، أيضاً نستدرج هذه الأسئلة: هل يريد الشاعر استدراج معنى أم استحداثه من جملة المعاني؟، هل يريد تعبئة الشكل بالمعنى المستدرج أو المستحدث، أم يريد أن يستحدث شكلاً لهذا المعنى؟، هل يريد القارئ إناءً فارغاً، يعبئه بما يشاء في لحظة سريعة، أم يريد إناءً مملوءاً في لحظة عطش عابر؟، هل يريد النص استعراض مفاتنه " قابلة للتأويل أو غير قابلة "؟، أم يريد خلق حياة لكائناته، ولصاحبه، وللمتلقي؟.

   لو دققنا النظر في جملة الأسئلة، وجميعها تتشابك في لحظة مرور نفسي لدى الكتابة الأولى للنص الشعري، لخرجنا بنتيجة مفادها: كيف نقرأ شاعراً يتجه لامتلاك صوته ومفرداته وتراكيبه ورؤاه دون الحاجة إلى النسخ، أو الاتكاء، أو السطو المسلح وغير المسلح على المنجز الشعري.
   من هنا أرى أنّ المسألة ليست شائكة كما نظن، وأنها تشكل في مسالكها أزمة تكاد تطيح بالنص والشاعر والمتلقي معاً، لأننا في واقع الأمر، نحتاج كل ما سبق، لقياس شعرية النص، ووعي الشاعر، وثقافة المتلقي وإدراكه للامتداد الطبيعي للحظة الشعور ولحظات القنص.
لن أطيل في هذا الباب، لأنه ربما يكون موضع خلاف.. ولكنني سألقي الضوء، ومن وجهة نظري، على أسباب ربما تكاد تشكل مفصل الحيرة على هذا النبات الشعري الجديد الذي يسمّى شعر التفعيلة، وما رافقه من تخبّط، أو ليّ عنق، أو تساهل من قبل الكثيرين.
الشاعر الحديث لم يدخل بعد في المتخيّل الصحراوي لواقع الأمة العربية، هذا المتخيّل الراسخ في الأذهان منذ قرون، لذلك كان فضاء أي تجديد يواجه بالرفض، أو انحسار المتابعة والتمحيص، أو تهويل الفاجعة من هذا الاستحداث، واتقاء شرّه، مما يؤدّي إلى إصابته بالشلل قبل نمو حركته الأولى، لهذا حدث هذا الشرخ الكبير بين النص والمتلقي.
أي عندما يذهب القارئ إلى أيّ نص، يذهب وهو مكبّلٌ بهذا المتخيّل الصحراوي، بهذا الإرث الكبير الذي أنتجته الذائقة الشعرية العربية منذ امرئ القيس، يذهب وهو مقيّد بواقع له مفرداته وحواريه وقياساته، يذهب بنمط سياحي واحد، وأظنه نمطاً تابعاً، ولا يسترشد أو يتناغم مع أيّ حركة خارجة عن هذا المتخيّل، وأعذرهُ، لأن الواقع الآن لا يسمح لهُ بتنكب التحوّلات، حتى تلك التي تقع على كاهله، ويستسلم لها، ولو أردنا القياس، علينا الذهاب قليلاً إلى سبعينيات القرن الماضي، ألم يعبر الشعر الحديث آفاق الذائقة العربية، ألم يسعى القارئ إلى امتلاك دواوين الشعراء المحدثين، وربما يقول قائل: كان هناك اتصال بين الخطاب الشعري والواقع وما يركن إليه المتلقي، أقول: لماذا حدث هذا التحوّل مع وجود شعراء ما زالوا متمسكين بالقصيدة العمودية، لقد كانت اللحظة الراهنة في ذلك الوقت قادرة على استيعاب هذا التحوّل، وقادرة على استلهام الخطاب الشعري، رغم اتكائه على كثير من الأساطير والتي كان يجهلها معظم القراء العرب.

   لقد كان للمنهج الدراسي أثره في تتبع هذا التحوّل، وكان للجانب الإعلامي أثره في إيصاله، وكان القارئ يبحث عن نقطة تحوّل في عالم يسوده الانكسار والتشظي، يبحث عن نقطة حالمة، وأظنه وجد مسارها في هذا التحوّل الذي أصاب بنية الشعر الموسيقية، ولم يصب بنية الوعي الشعري، أو بنية الرؤى.

   أعتقد أن التحولات التي طرأت على الشعر العربي لم تكن بمعزل عند بعض الشعراء العرب عن هذا المتخيّل، لهذا رأينا أو لمسنا ذلك الامتداد الطبيعي في شعر الرواد للغة الشعر وفضائها الموسيقي رغم انحسار البحر عن أمواجه المتشابكة أقصد البحر الشعري، وخروجها، أو ركوبها لموجة واحدة، من هنا أجزم أن هذا الامتداد كان ابناً شرعياً لهذا المتخيل، مما قارب المسافة بين النص الشعري الحديث والمتلقي الذي وجد أصابع وآثار يعرفها أو يتحسسها أو له صلة ولو كانت خفية معها.

   ولكن هذا الامتداد بدأ ينحسر في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، وبدأ المتخيل الصحراوي يتلاشى شيئاً فشيئاً، وبدأ المتلقي يحس بغربة من نوع ما، لأن الشكل أصبح هو المولد الحقيقي للإحساس ولدرجة الانفعال الشعري، إن كان هذا انفعالاً، مما أدى إلى "تَفَرْعُن" الشكل وهيمنته على حواس القول الشعري ومراميه، وهذا ما لم يعتد عليه القارىء، وعليه أتساءل هل ذهب الشاعر الحديث إلى تخصيب لغته وفق شرط المتخيّل الصحراوي، أم وفق ما يدفع به إلى الهذيان " وهنا لا أقصد الغموض"، بل النزوع الكلي إلى فعالية المتخيل الذي لا يتقن المتلقي سواه، أو لا يطرب إلا لأوتاره.

   هل تسلح الشاعر الحديث بمقومات حقيقية لإنشاء جسد شعري جديد يتصل في لحمته مع تراثه ولغته، هل استطاع أن يستثمر الطاقة الفاعلة في الشكل والمتخيل لينجب رؤية جديدة، وخامة جديدة للقول الشعري.

   كل هذه الأسئلة وغيرها وحسب اجتهادي تقودنا إلى وضع الأصبع على ما يعتمل في صدور القراء العرب حول هذا النمط أو ذاك، ولكنني أنهي هذه العجالة بالقول: هل الشعر الحديث مستورد في منجزه المتراكم بعيداً عن بدايات انطلاقته، أم أنه ابن شرعي في غيرته على روح الموسيقى ودوائرها، أرى وأيضاً هذا اجتهاد قابل للخطأ والصواب، أن معطيات ما نقرأ في الذاكرة الشعرية العربية الحديثة تشكل رئة جديدة يتنفس خلالها الشعر وفق المتخيل الصحراوي.

   نعم هذا الشعر هو رئة جديدة للمتخيّل الصحراوي الذي انشغل به العرب، لها مقاييسها الخاصة، نحن لا نتعامل مع الرمز كما كان ولا مع الأسطورة ولا مع المتخيل، ولكن ننطلق من جوانيته، ونضيف عليه ونؤسس له من جديد.

   لا أجد فوارق بين الشعر القديم والحديث، فكلاهما محمول على جناح رؤية شاعر، إلا إذا كان هذا يقود إلى الطلاق البائن بينونة كبرى بين الحالة الشعرية ومتخيّلها، فالشعر هو اتصال روحي بين الجسد وحياته الأولى والأخرى، فهو في ذهابه إلى نص حديث يسعى إلى تشكيل خواصه الجديدة من ابتكار وإنجاز ما لا ينجز من صور شعرية مركبة، إلى غير ذلك من التقنيات التي تجاوز فعالياتها الشعر القديم، وهنا يلجأ الشاعر الحديث إلى الانتقال من الشعر العمودي إلى الشعر الحديث لتشكيل حواس معرفية جديدة، ( لا يعني هذا أن النص القديم غير قادر على الاستيعاب )، ولكنها خصوصية يجب أن نحترمها، ونحاول فهم أبعادها وتجلياتها، ولأن هذا اللجوء في بعده الحركي هو محاولة للخروج بنتائج معرفية جديدة على مستوى الشكل والرؤيا، فلندع الشاعر في محرابه يتلو بعض طقوسه الخاصة، بعيداً عن النسخ الكربونية للقصائد والتي استراح معظمها في أحضان الخطاب المباشر.

   نحتاج إلى القارئ العمدة، القارئ الذي يدور بسرعة ثقافة النص، ويحاورها، ويستجلي قيمها، ورموزها الجديدة والمتجددة، نحتاج إلى نص شعري حديث أو قديم يتجلبب بفتنته المبتكرة، وتأثيره النفسي لا العقلي، نص شامخ، لا يستسلم بسهولة، نحتاج إلى إعادة تشكيل الوعي القرائي الشعري بعيداً عن المسلّمات، وليس انقطاعاً عنها، وأخيراً نحتاج إلى المشاركة الفاعلة في إنجاز نص شعري لا يرتهن إلا لآفاق البناء ومنتجها التعبيري، حديثاً كان أم قديماً، ولا يتأتى هذا إلا بمزيد من الاقتراب الحارق من حِمى النص مهما كان شكله ومحتواه.

   فالنص الشعري الحديث إذا لم نستطع توظيفه وفق منظور المتخيّل الصحراوي " البنية الإيقاعية الكلاسيكية"، ولو بشكل متمدد ليشهد نغمة المسافة الموسيقية في العمودي، سيكون باطلاً إذا جاز التعبير، أو سيكون دخيلاً على الواقعة الشعرية العربية على وجه التحديد،  كيف لنا إذن أن نعيد صناعة الموسيقى في قالب حداثي، وكيف لهذا القالب أن يتمدد وفق هذه الوحدات، دون الإخلال بوجهه الحداثي، نحن بحاجة إلى إعادة دراسة الجملة الموسيقية العربية، وعدم الانسلاخ عن الأصل، ومع هذا فإعادة برمجة الوحدات الصوتية في الموسيقى العربية، ليس دخيلاً على الذائقة البدوية، فكثيرة هي المتواليات الموسيقية في النثر العربي القديم التي تلقتها الأذن العربية بارتياح كبير، وما الخطاب النثري الفني ببعيد. 

هنا لا أطالب بالانفصال عن الموسيقى الكلاسيكية، بل أطالب بتحييد الشاعر عن لعبة الجزر والمد التي تضع حوّاماتها في طريق الإبداع، نحن نحتاج إلى هيبة الموسيقى، وفضاءاتها التي تمتد حتى أوّل نص شعري عربي كُتبْ، لماذا لا نراقب أصوات العصافير، تختلف في الوحدة النغميّة إذا جاز التعبير، وتلتقي في جاذبية الوعي بأهمية الموسيقى. 

   نعم هنا يستقر الأمر، ويستوي عود الإنبات الشعري، نعم هناك منطقة تستوعب مجريات الفكرة شعرياً، وهناك منطقة أخرى تستوعب شعرية الفكرة، ولكن يعود هذا إلى مقدرة الشاعر على بثّ روح الحياة في ممتلكاته " لغوية كانت أو موسيقية، أو تخيّلية، أو مظاهرة الكلام وفق ما يحتمل من فلسفة وحكمة وغير ذلك من أبواب التشكيل النفسي للنص، أنا مع هذا الفرز شريطة أن لا يكون منهجاً تقييدياً، نحاسب على إثره نوازع التطور والبحث عن حالات إبداعية جديدة
   ولكن ألا ترى، بأنّ ما فشل به العرب على مستوى شعر الفكرة، كان منهجه في كثير من لدنه ضعف شاعرية الشاعر، أو خلوّ ذائقته، أو عدم وجودها أصلاً، إلا من قبيل أن الشعر كان يمثل في تلك المرحلة المادة الإعلامية الوحيدة، وكذلك الأمر بالنسبة للحداثة، فكثير من الذين ركبوا هذه الموجة لم يفلحوا بضبط سواقيها وحواريها ونوازعها النفسية.

   نحن أمام منزلق خطير يكاد يعصف بكلّ شيء، فما نقرأه من شعر في هذه الأيام ما هو إلا ترجمان لحرف منقطع عن نفسه وعن الأصل، ومنقطع أيضاً عن تربته الأولى " الفطرة والموهبة "، لا أدري، أحياناً أقرأ ما يسميه بعضهم شعراً بريبة وقلق، ريبة أن تعمم قضايا الإشكاليات على تجربة الشعر الحديث كمجموع.

نعم هناك خوف، وهناك حزن، وهناك انفلات شعري ينعي لنا  ما آلت إليه الأمور، فحقّ لمعشر الشعراء أن يتوجّسوا من هذه الدوائر، وعلى الأجيال الشعرية أن توائم بين متخيّلها الصحراوي الموروث وبين حداثة متخيّلها، حتى تتجاوز محنة التسلل غير الطبيعي لِمَرْكِب الشعر الصعب.

المقال السابق
المقال التالي

كُتب بواسطة:

0 Comments: