اقتحام التضاريس
الشائكة
مدخل
لديوان ( حارس
المعنى )
للشاعر أحمد
الخطيب
الأستاذ الدكتور
هادي نهر
من منجزات الشعر الأردني المعاصر الشاعر
أحمد الخطيب، ففي شعره فيض من الريادة، والتجديد، والجدّية، شعره شعر الأحياء
الحيّة، وموسيقاه آسرة، وإيقاعاته ألوان متداخلة ودوائر ساطعة، قائمة على امتدادات
المعاني التي رسمتها تجارب حياتية، وفكرية، وثقافية، ولغوية هائلة، ومريرة، حيث
يبدأ هذا المبدع دائماً من الكلمة الفيّاضة بالدلالة والإيحاء، وينتهي عندها،
وتبقى ال ( أنا ) الفاعلة، والتجربة المعمّقة: الوعي بالإنسان والعالم تنتج نصوصاً
شعرية تؤكّد ماهيات متحركة قائمة في السياقات اللغوية: ماهية الإنسان، والأشياء،
والعلاقات، يسيطر شعر الخطيب عليها لا ليسجنها بإسقاط دلالاته عليها، ولا ليسلب
أحلامها، ولكن ليخترق بها مؤسسة اللغة، وغياب الوعي الإنساني المؤهل للبحث عما
وراء الكلمات من دلالات وإيحاءات، وليكتشف تبدّد الواقع الإنساني وضياعه في خضم
الانكسارات المتلاحقة، والهموم الإنسانية المذبوحة، وأيام الوجع الإنساني، بل
ساعاته التي أفقدت إنسان اليوم _ أو كادت_ ذاكرته، فأضحى يعيش على فعل الاجترار
والتذكير بدلاً من فعل الالتقاط والتركيب والوعي، وصرنا إزاء اجترار عالم متذكَّر
مفقود احتفظ به نتاج المحسوبين على الثقافة والفكر.
إننا في ديوان الخطيب ( حارس المعنى ) أمام
مبدع مهما حاول أن يفرّ أو يدير ظهره عن الناس والأشياء والعلاقات تبقى عيناه،
ويبقى نبضه باتجاهها ومعها، إذ لا يمكن أن يكون الإنسان شاعراً وعدوانياً في آن.
وإذا كان في الخطيب بعض من العدوانية فإنما
تكمن في مقارعته اللغة، في زرعه الشكوك في أمانتها التقليدية، ومع أنه لا يقتنع
بجدوى الإيمان بصدق معانيها يظل حارساً لهذه المعاني، محذّراً من ممارسة القول
الشعري بوصفه محتوى للعلامة والدلالة فحسب، يبثّ دائماً مدلولات ميّتة تنتج نصوصاً
أكثر موتاً، فالشعر الحقيقي فنٌّ صعب، بحاجة إلى مبدع قادر على جعل الكلمة واحدة
ذات أكثر من ممكن دلالي بين ممكنات متعدّدة، وذلك لا يتمّ إلا باختراق حواجز
وعوائق متلاحقة:
صعبٌ مِراس ُ
الشعر
أوّلهُ نواةٌ تخرق
القانون،
قانون التشكّل،
وانحراف الماء عن
مجرى الينابيع
انسلال القطّ من
قدمي إلى ورمٍ صغير في عيون نائية.
وَشْمُ الكلام على
رياح العافية
هو نهر أشيائي،
وأشياء الصبايا،
والتفاف الريح في
عين الغريب،
كمائن محشوة
بالرّعب،
بؤبؤُ طفلةٍ تسعى
إلى إحداثِ
تغييرٍ بخارطة
الكلام. " 1 "
وما لم يصير الحبّ مرضاً لا يكون هناك حبّ،
مثلما لا يمكن للقصيدة أن تكون قصيدة إن لم تكن مرضاً يسكن فيهما قلب الشاعر، ثمّ
يفنى على باب قصائده:
الحبُّ مرض
والشعر مرض
بينهما يسكن قلبي
والحارس قلبي
"2 "
///
لا شيء يذكرني
أنا الجسد الذي
يفنى على باب القصيدة "3 "
ولعلّ الأكثر أمناً وضماناً في أن يظلّ
الشاعر يعالج الحياة، ويقوى على البقاء هو أن يتلمّس موضوعه بتسمية أشياء العالم
من الداخل، داخل اللحظة التاريخية بكلّ مآسيها العارية، وذلك من
___________________
1_ الخطيب: حارس
المعنى 418
2_ نفسه: 258
3_ 289
خلال فتح مغالق
المعنى، لا من خلال السطح الفاقد للدلالة الإنسانية بفعل علاقاته العامرة، وغير
المؤثّرة، بل من خلال ( واقع ما تحت ) على حدّ تعبير أحد الباحثين " 1
"، الواقع الحامل للدلالات الإنسانية بفعل تجاربه، وآلامه، وإشكاليات حياته،
وبفعل صيرورته المتواصلة، فالواقع ( الما تحت ) نواة حاكمة، ومسؤولية المبدع في
هذا العالم، التقاط هذه الصيرورة وحركتها، دون تقرير جاهز، أو مسبق:
هي عائدة
وأنا كذلك
ليس لي من فاتح
المعنى
سوى أن أنطوي
لقصيدة
في الليل آوي
للفراش
ولا أغامر في
الكلام "2 "
///
أنا ما تغيّر
بابي،
لأني وجدتُ
مفاتيحه في مداري
وبعض القصائد في
سلة الرمز تشتل أرضي
وتقصف بالعاديات
ومثلي
يقوم على رسله
باتجاه الحياة
ولو كان نصفي
عجوزاً
وخيلي تنوء بحملي
"3 "
لقد جعلت الذاكرة أحمد الخطيب حبيس الزمن
الممتدّ منذ شبابه إلى مرحلو الستينيات، وكان الزمن في هذه الحقبة الطويلة يتوقف
ويبدأ حيث ينتهي، ليصبح كلّ شيء مشدوداً إلى مركز واحد، لتدور الأشياء حول هذا
المركز في مدارات متنوّعة، ومختلفة الأبعاد وهي في دورانها تلتقط صوراً للحياة،
وللعالم، وللإنسان الذي داخل الشاعر، وللإنسان من حول الشاعر، ويظلّ الوحش الستيني
محاصراً الشاعر حتى استطاب _ على كره منه _ هذا الحصار على الرغم من أن الذي كان
يأتي لم يأت، ليظلّ هو
__________________
1_ الأسعد،
محمد: وعي اللغة أم لغة الوعي ص157
2_ الخطيب: حارس
المعنى ص 23
3_ نفسه: ص
68
مفجوعاً في بقاء
الصحارى صحارى، ومحطات الزمان هي هي من غير هوية، وليبق الشاعر والقصيدة في انتظار
دائم هو يحرس معناها ومغزاها، وهي تحرس رأسه من أن لا ينفجر:
قال أخي: كم يلزمك
الآن من الشعر،
وأنت الشاعر،
كي تمزج لونين
معاً،
وتغادر أقبية
المحظور؟!
قلتُ: لعلّك تقصد
كم يلزم ذاكرتي
من لغة واضحة
لأقول:
ستين رهاناً في العمر قضيتُ
ولم ألمس شيئاً في
بادية الجيران
سقطوا كالنمل على
الجدران
سقطوا من سقف
مراكبهم
في الطوفان "1 "
إنّ ما بين اللحظة الزمن، واللحظة الحلم
يظلّ الشاعر في ( قراره المكين ) يحاول أن يجسّر الهوّة بين أشيائه: الذاكرة
والمخيّلة، الأحداث والأحاديث، المعنى والغثاثة، الحقيقة والزيف، الإنسان المأمول
والإنسان الواقع، وعلى الرغم من اضطراب مشاعره لما يراه من ماكنات قمع هائلة،
واسواراً شاهقة من الخوف والرعب، واضطراب الحياة والإنسان من حوله يقف الشاعر يدفع
بالآخرين من حوله ويمدّهم بفضاءات أسمى، ويقف في الوقت نفسه يدافع عن حماه ومعناه
ضدّ أي تخلخل أو انكفاء:
أنا راقدٌ في قرار
مكينْ
...وأدفع بالناس
نحو الغمام،
إذا مسّنى الخوفُ
عدتُ إلى ثوب أمي
وما ملكتْ جرّتي
من نبيذ حميم " 2 "
////
.... وأدفع عن
ساحلي
بعض هذي الفصول..
____________________
1_ نفسه: ص 58_59
2_ نفسه: ص 386
لأقرأ حجمَ
انتصاري
وسيلَ انكسار
الطغاة
ومرعى أبي
وشوالَ الطحين
لأدفع هذا الأنين
"1 "
وهو في كلّ ذلك واقف بارتياح بين ذاكرة
صافية، وضباب قلق، بين خيال جامح مستفيض، وسهام من الضوء كاشفة كلّ زيف:
وأنا الذي مزج
الخيالَ مع النّبال
ولم يجامل في
الحقيقة سنديان الماء
لم يقرأ على جسد
الرمالِ
مدينة أخرى
مؤجّلةً
ولم يفتح لباب
البيت قنديلاً
ولم..يمدح شتات
الخوف
لم يعرج عليه دمٌ
كفى..
بقيتْ غمامة نصّ
ذاكرتي
وأوصافي
وبعض النّاس،
أخّرَهم حروجيَ
عن مقايضة
النّشوءِ، أنا النّشوءُ
ودارتي مرهونةٌ
للموتِ، لا
صدري يبيح لوردةٍ
أن تنحني
لتلمَّ نصفَ
قميصيَ الأوّل
وأنا النّشوءُ
وأوّلي أوّل.
"2 ”
إنّ الخطيب لا يتوكأ على كلمات عرجاء،
ومعانٍ عمياء كما يفعل بعض الشعراء اللاغين والمثرثرين من المحسوبين على الشعر،
فشعر الخطيب ذو بصيرة نافذة قادرة على الربط بين واقعية المعنى وشيئياته الموغلة
إيحاء وتداعياً، ولذلك يستعصي شعره على من لا يعرف كيف
___________
1_ نفسه: ص 390
2_ نفسه: ص 343
يتمّ تفريغ دلالة
العلاقات من خمرتها القديمة والوصول بها إلى مذاق جديد، علماً بأنّ الخطيب يحرس
المعنى بأمانة دائماً، ولا يعمل على أن تفقد الدوال مدلولاتها، ولا أن تموت وتحتلّ
مكانها في توابيت القواميس، فموت العلامات يعني " موت ما تدلّ عليه، موت
رؤية، وموت وعي ما، وما نعانيه حالياً ليس موت علامات، بقدر ما هو ضياع دلالات
الحياة المعاشة، وتمزّق حساسية تاريخية، اجتماعية بواقع راهن". "1
"
وإلّا كيف يمكن الوقوع على النفائس إلا بما
وراء أسوار الكلمات:
وأنا كذلك...،
لو رَمَمْتُ الروح
في قلقٍ
وهيّجتُ اللحومَ
على العظامِ
لوجدتني أهذي:
هنا يا أرض أوصلني
دمي
ووجدتني أغتالُ
قبّرةً، وأندى
مثل عشبي، كي أقوم
إلى النفائسِ
في تضاعيف الكلام.
"2 "
وكيف بالشعر أن يكون سائغاً إن لم يكن في
كأس للمعنى الثاقب، والنابض، والمؤثّر:
هذا دمٌ صافٍ
وشعرٌ سائغٌ
للشاربينَ
وكأسه من ناسج
المعنى
وريش من لجين لا
ينام. "3 "
إننا بحاجة إلى شعراء لا يتقوّلون اللغة،
وإنّما بحاجة إلى شعراء يجبرون اللغة على أن تقول أشياءهم:
بابٌ إلى النصّ
ينشرُ طاقة الرؤيا
ويشطح بالخيالِ
فأكتسي باللفظ
أو آوي إلى جبلٍ
من الهالات
أسحرُها
_____________
1_ الأسعد، مرجع
سابق ص 153
2_ الخطيب: حارس المعنى ص 19
3_ نفسه: ص 21
فتعرف أنني
لا أذعنُ المعنى
لغير ديوكها
المتصهّلة. "1 "
وأننا بحاجة إلى شعراء لا تنحني قاماتهم
أمام صخب اللغة، وجلجلة الدوال، بل تنحني هذه الدوال أمامهم، وهم واقفون، يقول في
قصيدة " آمنتُ بالشعر مرفوعاً إلى لغتي":
هل ينام الكلامُ
لو مسّ شيئاً
غارقاً في بُراد
نقع الحديدِ؟1
هكذا الرملُ لا
يردّ صهيلاً
بل يُعيلُ السرابَ
من حرِّ عُودي. "2 "
ونحن بحاجة إلى شعراء تكون اللغة حاملةً
سطوعهم الإنساني، والفكري، والثقافي، والقيمي:
لغتي بناء المفرداتِ
سليلةُ الأنوار في
الرّقيا
ومائدةٌ،
وبعضُ غموض قافيتي
رؤًى تستملحُ
الإسراءَ في الأشياءِ
قاربتُها من لوحةٍ
أسطورةٍ
وخلعتُ آنيتي على
استحياءِ
...فرزقتُ بالمعنى
وأجّلني حدائي.
"3 "
لغة تخلق دلالاتها، وليست انعكاساً لدلالات
اتصالية ساذجة ملقاةٍ على قارعة الطريق:
قاربتُها
وخلعتُ من عصفي
حذائي
لغتي من الياقوتِ
____________________
1_ الخطيب: مصدر
سابق ص 43
2_ نفسه ص 115
3_ نفسه ص 410
أوراق محبّرةٍ
ويخرج من مفاتنها
ضيائي
لغتي إذا زوّجتها
من نفسها
خلعتْ عليك عباءة
الماضي
وجاءت في الهزيع
من الزّمان. " 1 "
ومثل هذا الشعر لا نجده إلّا عند أولئك
النفر القليل من الشعراء العرب الذين نحسّ فيهم القدرة على أن يشعرونا بأنّ جمالية
العمل الإبداعي غير ذاتية محضة في طابعها العام، ولكنها غير منفصلة تمام الانفصال
عن حيواتهم وتجاربهم وثقافاتهم، كما هو الأمر في شعر الخطيب المترف بمنابع استذكار
تتداعى في مخيلته، هو شاعر يحلم، ولكلّ حلم من أحلامه هويته المميزة، كلّ يوم
يُولد حلم جديد، وتموت عشرات الأحلام، هناك أحلام طفولة تربّت فوق الحقول
والأزهار، تلمّ رؤاها لتشعّ تراتيلها مرايا وأنواراً في كلّ عتمة:
وكأنّ بوح الشعر
يغدو مثل أحلامٍ
قليلةْ
يسعى إلى جلب
الخيالِ،
وقد تأسّى بالقتيل
وبالقتيلةْ
///
يا أيها الفردُ
الجميلُ
إذا تنفّس حارس
اللغة القليلةْ
فاهنأ، فقد رحّلتُ
كأس الماء في المعنى
وزرتُ الأرض
متّشحاً بأعلام جليلةْ
... حيّاك،
من ولج الصباح
مًشرداً
من رفقة النوم
الطويلةْ. "2 "
ثمّ يكبر الطفل ، وتكبر الأحلام، حتى
لتعانق الكون كلّه، تقتحم بوجهه الصامت الهادئ، وبشعرها الصادح الصارخ أشدّ أماكن
الشعر سريّة، ليبدو واقفاً حيث الموقف الذي يريد، على الرغم
____________________
1_ نفسه ص 412
2_ نفسه ص 55_56
من أنّه ينوء
بأعباء وأعباء، أثقلت روحه، وأنهكت جسده، ومزّقت سروجه، وأتعبت ركابه، فيمضي
بأسئلةٍ كبرى، سؤال يفضي إلى سؤال، معلناً انتماءه للخير:
إلى أين يمضي
الجسد؟
،
وتهبط كالضوء في
جسدٍ ناحلٍ
غير أنّ السؤال
القريب البعيد
إلى أينَ، ؟
والروح في غارة
الحبّ
تُبنى على مرج
أرضي
هناك_ اسألوا
الشهداءَ
ونحلَ الجراح_
الحياة
وأسبابها للأبد
أنا الآن مع
سنديان البلد. "1"
وإذا كانت التضحية أعلى مراتب التألّم، فقد
وجد فيها الخطيب أعلى مراتب السعادة، فضحّى بالكثير الكثير، وكان شعره غناء في
لحظات الجذل، ودموعاً في لحظات المحنة، وعن طريق هذا الشعر حاول ويحاول دائماً أن
يصل تجربته الذاتية بتجارب البشرية، وو: الإنسن في كل مكان، على الرغم من ادراكه
بأنّ ما بينه وبين الذي يريد مدى عصيّ على العدّ
والحدّ:
بيني،
وبين الموت أسرارٌ
مؤجّلةٌ،
وطيرٌ عاشقٌ
ويدان مسبلتانْ
ضرعٌ ناشفٌ
وحقيقةٌ هجعتْ على
فزّاعة الجيرانْ
بيني
وبين الأرض
ألف نعامةٍ
_____________________
1_ نفسه ص 68
والرمل جيش يعقدُ
الحبلَ المقدّدَ
في حصون المهرجان
وأنا ألوذ بكأس
قافيتي القتيلةِ
أرتوي من صيحة
الأطفال يعتمرونَ
شارعنا الصغير،
وهم،
يغّون القصيدة، لا
مدارسَ
لا مضاجعَ في
البيوت، ولا
ملاعبَ، لا مصائد
للطيور، ولا
جدال
ولا قِران
فرجعت من نفسي
إلى كأسي
وكنتُ أمرّ تحت
عريشة المنفى
وأسأل عن مضارعة
الحسان!!! "1 "
ويظل الخطيب يلح على هذه الموضوعة، فالوجع
حاضر في كلّ قصيدة من قصائده، متعدّد بتعدّد ألوان هذا الوجع في وقائعه، وفي
ذاكرته، وثمّة تفصيلات تقودنا ألى ما وراء آلآمه، منها بيت النشأة المتّسع لكلّ
الناس، ولذلك " له ألف باب"، ومنها المعرفة والقدرة على الإحساس بجمال
الأشياء، وقبح الأشياء، ومنها الأرض التي يأكل الغزاة أحشاءها، والبلاد التي صارت
جسداً مخدوعاً، ولحظاً لم ينع، ولم يكتحل مرّة، وماذا يجدي إذا ارتفع الصوت، وطال
العنق:
أنا من بيوت لها
ألف باب
إذا أغلق البابُ
وصْلي، لها في
فضاء طريّ القوائم
قومي، فقد أنذر
الوصلُ
وأعرف مَسْكَ
الطيور من الريش
خوفي اتكاء
الأساطير على ما أسطّرُ
خوفي من الليل
يظهرُ في أوّل الليل
خوفي من السيف
يجتاحهُ الوحلُ
___________________
1_ نفسه ص 107_108
وخوفي على ما أضاع
الفتى
يا بنتَ صبري على
الجرح
يا بنتَ حيفا التي
أظهرتني على جسدٍ
في الهزيع الأخير
من الموت
خوفي على لحظ ما أينع الكلُّ. "1 "
وهذا الشاعر الذي بعدت المسافات بينه وبين
ما يريد، يظلّ يمشي وإن صادرت البيد قواه، وأتت الصحارى على حوافر خيله، تتسع
أوجاعه، وهو يدخل جسد هذا الزمن الإنساني المصلوب على مدخل إنسانه، وآماله، إذ
يبدو أمامه أنّ حزن العالم في انكساراته وهزائمه لا يتّسع إليه صدره على رحابه،
فيبقى على حزن الطريق مغترباً كالطيور الشريدة، محاولاً أن يؤرخ لمتاهات،
وانكسارات، وهزائم، وأوجاع، وفرق بين أن يعيش الإنسان المأساة، وأن يدركها، مثلما
هو الفرق بين أن تكون حزيناً، وأن تدرك معنى حزنك، بأن تبحث عن أصداء نفسك
المتشظية أحزاناً وآلاماً، " إن ما بين الرؤية القائمة، والإدراك الناصع
يتراوح الوجود بين ظاهر ماثل للعيان، ومدرك كلّي" "2 "، وفي هذا
الاتجاه نجد حزن الخطيب حناناً وقسوة، " لطفاً إنسانياً" على حدّ تعبير
شكسبير "3 "، ومعرفة بحقائق الأشياء والأحداث، وبقسوة هذا العالم الذي
لا يرحم الضعفاء، ومع ذلك كلّه نجد الخطيب لا يقف موقفاً سلبياً من الأحداث، ولم
يكن يوماً _ كما يوحي بذلك شعره_ في انكفاء وانسحاب، إنّه يبدأ في الضدّ من هذه
المعادلة مؤكّداً موقفه حيث الحق وحيث الريح
مدلّاً على أنّ العميان ليسوا هم المحاصرون بعالم أسود، وإنما هم أولئك المبصرون
الذين لا يقدرون على أن يبصروا شيئاً مما حولهم، أما خارطة الضياع العربي فلا يقدر
على اجتياز أوجاعها إلّا الذين يحسّون بحجم الدماء والخراب، وبحجم البلادة التي
عليها أولئك القائمون على أمر هذا الوطن الكبير، ممّن تلبّسوا أوجه الآله،
والفحولة المزعومة
_____________________
1_ نفسه ص 192_193
2_ د. عز الدين
إسماعيل: ظاهرة الحزن في الشعر الحديث ص 35
3_ نهر، د.هادي:
عدن وأنا سيّد البحر ص 67
وفاتهم أن يدركوا
أنّ السراب امتدّ في أنهارنا وبحارنا، ولم يعد عندنا إلّا تأمين ما تبقّى منّا
بالأغاني الجريحة كي ندفع عنا مرارة الأفاعي التي فرّختْ في حناجرنا:
وجيء بمنفى
إلى جرّتي يا عراق
فأين دلالُ الخيام
وأين الخيال الذي
سوّر البيت من غير سور العراق
وأين قوافي
الرّياح التي شيّعتها القصائد...في حبِّ
...حبّ العراق؟!!
حصار المدى مثل
أيامه
فارغ يا عراق
وجُزنا التبصّر،
إن لم تكن
أنتَ...،
فمن ذا يكن يا
عراق
لهذا الذي لم ترَ
الأرضُ من قبلُ
اسماً له في سجّل
الزمانِ
ولم ترَ من قبلُ
اسماً له في مرايا العراق.
///
يقولون مال إلى
رمزه شاعرٌ،
لينهض حبرُ العراق
ومال إلى سُنّة
الطينِ،
يبعث فيها مياه
الفرات التي
أرهقتها مذابح أهل
العراق
حصار الكلام هنا
واثق من حميم الوصالِ
وخيل العراق.
"1 "
إنّ الحداثة الشعرية في تقديري ليست في
طبيعة الشكل الشعري الذي يمارس في ضوئه المبدع إبداع نصوصه الشعرية، وإنما الحداثة
تكمن في الفنّ الذي يحاول أن يؤسس وعياً، وأن يكون مفتاحاً لدخول عوالم الأشياء،
___________________
1_ الخطيب: مصدر
سابق ص 226_228
فلم يبصروا والكون، والإنسان، وأن تكون له القدرة على كسر
أيّ رتاج يحكم نفوسنا، ودواخل أبوابها.
والوطن في شعر الخطيب هو الأرض والأردن
وفلسطين والعراق وكلّ بلد عربي من المحيط إلى الخليج، والوطن كل نخلة عربية سمقت
وكل شجرة زيتون أثمرت، يتألق ثمرها الشهي بجيدها أم قرطها الذهبي فتورق أشواقها
محبة وسلاما، والوطن الأرث والمآثر والمجد التليد، ولأشدّ ما يؤلم الخطيب أن تنكسر
هذه المآثر طمياً في الفراغ، وأن تنفصل مشيمة التاريخ ليجتر الإنسان ذعر خوائه،
ويسيج أحلامه بما تبقى له من أنقاض:
وأنا الألم
ألم على القوقاز
عكّازٌ لأندلس
الورم
ألمٌ لعقربَ يخطف
السيل المعتّقَ
في البراري
ألمٌ لواجهة
النهار
ألمٌ على فستان
غزّةَ
طائرٌ من واقعٍ
وقعَ الزمانُ عليه
واصطاد الألم
وهناك في الدانوب
كان يشدّني وجعٌ
لأخطف نشوةً أولى
لسير الذاكرة. "
1 "
إن امتزاج الزمن الذي تطفح به قصائد الخطيب
بالمكان يكبر هذا الزمن " صفة العموم لا الخصوص" "2 "، وهذا
الامتزاج الزمكاني يعين على استجلاء المشاعر، ويفصح عن " هذه البؤر النفسية
التي يتلاقى فيها الزمان والمكان معاً" " 3 "، فأبرز وظيفة للمكان
هي احتواؤه الزمان في امتداده، أو انحساره، حيث يُروى كلّ شيء ناقصاً أو مشوّهاً
_______________
1_ الخطيب: مرجع
سابق ص 79
2_ ينظر:
هانزميرهوف: الزمن في الأدب ص 10
3_ باشلر، جاستون:
جماليات المكان. ص41
وحيث يكون المكان
محتوياً كلّ حيّز الوطن: الحبيبة، البيت، الحي، الشارع، وكلّ المدن التي تحاصرها
المتاهات، سلال معروضة في أسواق النخاسة، وأشجار تسّاقط حجراً، وأرض ليس فيها
للصباحات مذاق، وأناس تغزوهم الآلام المتعبة، فلا يلتمع في جباههم أو على شفاههم
إلّا السراب، وبين هؤلاء شاعر متوحّد بين زمانه، ومكانه، والحقيقة، يجول في دوائر
الثلج واللهب، يتحرّى عن عمره، وعن تاريخه، عن المدن التي كُنست من أحجارها
المقدّسة، عن " عكا " ناقة الله التي ذبحت بأسيافنا الصدئة، فستانها
الذي أحرقته الحرائق التي لا تخمد، عن الخيول التي قطّعت قوادمها، عن الزمن الذي
نقاسم فوارسنا ليبعثروا الأعنة والخيول فلم يبق إلا بائع الخيول، بلا خيول، عن كلّ
العرب الذين رمّموا ماءهم واستطالوا على حافةٍ من نعاس طويل، وخدر طويل.
هكذا يمضي الزمن
غزالاً شارداً في صباحات الغبار والسّعال، وتظل أسئلة الشاعر الكبرى متفجّرة
بأحزانها ورفضها:
في نشرة الأخبارِ
بعضُ النقصِ في الأفعالِ،
والميزانُ في
المنفى
بلادٌ جرّدوها من
غزالات الصّباحِ،
وكنّسوها من
حجارتها العتيقةِ،
كان حارسُها
ينادي:
أينْ عكّا؟
أين بحرُ الأبيضِ
المتوسّط؟
أين رملُ الأرضِ،
فستانُ العروسِ،
وأين خيلُ بني
الشّفاهةِ والخببْ؟
أين العرب ؟
في نشرة الأخبار
شيءٌ مُحتجبْ!!
أو علَّقتْهُ
النائحاتُ على الخشب!!
أو صوّرتْهُ
الطائراتُ كما تشاءُ،
وقالت: المعنى هنا
في الأرجوانْ!
__________________________
1_ الخطيب: مرجع
سابق: ص 460
هكذا يتدرج الخطيب
متنقلاً بين الإيقاعي المستوحى من الأزمان والأمكنة والأحداث والوقائع المصوّرة
التي يراها ويعيشها، والتي تنتهك دائماً قلبه وسكونه كما ينتهك العواء والرصاص
سكون الأطفال وليالي المحبين، فيحاول أن يغنّيها بصوت عالٍ، فتصطدم في حجرته فلم
يبق له إلا أن يكسو ما تعرّى من الأحوال
شغاف روحه، ووعيه متوزعاً بين التاريخ لها أو تدوينها وبين المنحى التوظيفي للبنية
الشكلية، فالخطيب شاعر متمكّن أيّما تمكن من إيلاء المعنى أهمية بالغة من حيث
تسلسلهْ، مستعملاً جملاً مترابطة في الزمان والمكان بحيث يعسر على المتلقي الواعي
أن يقف على ثغرة استطراد، أو هروب من النسق الدرامي للقصيدة في البنية العامة للنص
الشعري، وكأنّ الخطيب عند كتابته القصيدة يرسم ملامحها مسبقاً بعد أن تدقّ أصواتها
الجامحة أو يكبح اندفاع أمواجها، ولهذا
نشعر عند قراءتنا لأغلب قصائده بتماسك أبنيتها الشكلية والدلالية بطريقة متفردة لا
تستسلم لانحرافات اللغة وإغراءاتها بما يتيح أمام الخطيب سبيلاً ممهداً لتزويدنا
بإمكانيات خاصة لتلقي وقائع ذاكرته بوصفها ( خبيرة خاصة)"1" في قراءة
تغمرنا بعوالم تخييلية متأرجحة بين الواقع والوهم، واقع لا سبيل إلى استرداده،
والتجليات الشعرية المستعادة فيها ذلك الواقع، ويظل الخطيب لهذا السبب حتى في
ذاكرته وطفولته عصياً على الاستسلام.
إنّ معاناة الشاعر ضمن أطر موضوعية "
الواقع، المجتمع، الإيديولوجيا...الخ" تنتج رؤى تمكنه من ارجال مختلف
الارهاصات النفسية التييمرّ بها، وهذا الارتجال يستوجب الخروج عن دائرة الانتماء
إلى هذه الأطر، واحتضان الواقع بمختلف قيوده الثقافية والاجتماعية والسياسية،
ومحاولة تمثّلها، وإنتاجها من جديد في قوالب شعرية متكاملة النظرة، والنبضة،
الكلمة والمعنى، والحركة المبنيّة على وظيفتي الوصف والتصوير اللتين قد لا تسلمان
من مؤثرات تتجّه وجهات صدامية مع هذا الواقع الباهت
_______________________
1_ ينظر: د. حسام
ناظم: أنسنة الشعر ص 43
والمتشنج، والمبوء
بالتناقضات الحادّة، والزاخر بالأشياء وأضداد الأشياء في لغة مرنة تتجاوز كلّ
الحدود المفتعلة:
هذا زمنُ الدَّوَخان
زمنُ الشرنقة
الحبلى بالجدران
زمنُ الجيران
زمنُ العاملِ
يخفرُ ورد الميدان
زمنُ القطعان
زمنُ السُّوسِ،
ومأمور الطوفان
زمنُ الركضِ وراء
الديدان
زمنُ اللعب على
الأوزان
زمنُ الفتنةِ
والسّجّان
زمنُ التحليقِ بلا
طيران
زمن الأزمان
زمنُ الشعر يطوفُ
ولا يجد المعنى في
قتل الإنسان!! "1 "
إنّ الاستناد إلى المتقابلات والمتخالفات في
شعر الخطيب ظاهرة ديناميكية متقنة تعمل على امتزاج الشاعر بموضوعه، وتعرب عن قدرته
في البوح برؤاه الفكرية، والنفسية، والسياسية وغيرها بصور ملوّنة ومتعددة، فانتقال
المبدع من النقيض إلى النقيض بحث في حقائق الأشياء، يوقفنا على أيّ انكسار في خطي
الزمان، والمكان ومن ثمّ الإنسان، الزمان في تحلله، والمكان في تغيّره وتناثره،
والإنسان إذ يعلو على همومه، فلا ينكس، ولا يتهاوى، والإنسان في ارتضائه لجوعه
جيفاً.
الإنسان والزمان
والمكان، حيث نجد في المجيء شهادة، وفي الشهادة حياة، وحيث نجد في الوقت نفسه في
التهادن والركوع لبعضهم حياة، أن يتجمّل الإنسان بالفتوة والموقف النبيل، وأن يضنّ
بالحياة لقاء أمان مؤقت وحرية زائفة، أن يرى الإنسان الأشياء بعين الصقر، أو يراها
بعيون الموتى، أن تبصر نور الحقيقة، وأن تطفئ شموعك حتى لا تراك الحقيقة:
___________________
1_ الخطيب: مرجع
سابق ص 469_470
وهكذا ينشطر كلّ شيء إلى نصفين متقابلين
تقابلاً حادّاً ، وإلّا كيف يخفر العامل ورد الميدان لا أن يغرس الورد في المبدان،
وأين البشر القطعان من البشر العنفوان، وأين اللاهثون وراء الفتات من المنطلقون
فوق السحاب، أين الوصوليون المحلقون على مستوى منخفض دائماً، من المحلقين أبداً
سمواً وأصالة.
أين من يقتلون
الإنسان ثمّ يشيّعونه في تابوت من الماس من الذين تطاردهم كلّ المنافي، وكلّ
الصحارى فلا يظمأون، إن ذاكرة المبدعين لتفرض على أكثرهم واقعاً يغلب واقع حيواتهم كلها فيظلّون يقلّبون
هذه الذاكرة بإلحاح مرضيّ قهري، ويفتشون فيها عن سلوان وعزاء مفقودين، ليس بينهما
غير المرارة والألم، " إنّ قوة الإبهام في خيالهم تجعلهم يتجاوزون كلّ لحظة راهنة، من أجل لحظة أثيرة تختصر
الزمن، وتعبّر عن أمدٍ كامل، إنها لحظة
البدء، لحظة التكوين، لحظة في فضاء أليف، يبدو كلُّ فضاء بعده نافلاً وغريباً
" "1 "، وهكذا يحاول الشاعر المبدع في أكثر من مرّة أن يكمل دائرة
الغياب المحيطة بواقع معيش ويضاعف الغياب، لكنّ ذاكرة الشاعر تبلور وعيه، فيضجّ
نداؤه للبعيد البعيد: ( أرابيوس) وليد ( أم قيس ) جدارا الأردنية:
أرابيوس
ببيتٍ من الشعرِ
علّمتني
...أنَّ بابَ
الحياةِ على برزخٍ الصمتِ منفى!!! "2"
و
جدارا *
قصّةُ الحجرِ الذي
بكتِ السماءُ عليهِ،
يومَ تفتَّحَ
النسيانْ
جدارا نهرُ بازلتٍ
تعتّقَ في زوايا الأرضِ،
خصَّ الشَّرقَ
بالمنفى، وسيق إليهِ رُخامُهُ، وأتى
على جيلٍ تغرَّبَ
في بوادي الجان
جدارا وجهُ مملكةٍ
رأى رسماً على فحمٍ،
فغالبَ شقوة
الإنسان. " 3 "
___________
1_ د. حسن ناظم:
مرجع سابق ص43
2_ الخطيب: مرجع
سابق: ص 98
3_ نفسه: ص 99_100
أرابيوس، إذن علّم
الخطيب كيف ينفلق إلاههه القمري المظلل بالكلمة الشعرية دليلاً ورفيقاً أميناً
يعين الشاعر في البحث عن جدواه، وهو يعيش عصراً يطحن النجوم والزهور، حتى لتبدو
الأرض إمّعة قوقعة، وقبر ضيق، عن جدوى الزمن والتاريخ الذي يبحث عن كنه التاريخ،
والدم الذي يبحث عن جدوى الدم في معركة يخوضها العميان، ويشعل أوارها ( الرّعيان
):
يضرب بالقصيدة
وجهها الملفوح
بالعنّاب، والضوء
المدثّر بالصلاة على الرّهان
ويقيم أمر الريح
في سهل المخيم
والنواطير التي
انتظرت قدوم السّيل
تحت غزارة القتلى
وتحت جريرة
الرعيان. " 1 "
///
هنا دربٌ إلى حربٍ
وحربٌ خاضها
العميان. " 2 "
إنّ الإشارات والشفرات الموجودة في بعض نصوص
الخطيب تتداخل بعدد من الطرق غير المتوقعة، ويعتمد هو فيها على مبدأ إطلاقها
بوصفها دوال حرّة لا تقيّدها حدود المعنى الذي قصده، أو قصده النّص " 3
" وسواء أكانت هذه الإشارات، أو لنقل هذه المرجعيات رمزية، أو أسطورية أو
تراثية أو غير ذلك، فإنّ الخطيب قادر على تفجير وعيه، وشحنات خوالجه، وتدفق أحاسيسه
عبرها، ولذلك نجد بعض نصوصه التي استند فيها إلى مرجعيات معينة تمثّل أعلى مستويات
الوعي، أعني الوعي الفوقي الذي يمارس وظيفته وتحقيق ذاتيته بوصفها تجربة شعرية تعي
نفسها وما حولها تماماً داخل اللغة " 4 "، إنّ لمن دواعي التأويل، أو
التبرير، ما يذهب إليه انعطاف الراشد إلى طفولته، أو ما يقول به علماء الأحياء في
نظرية الاسترجاع، ومفادها أن الإنسان،_ وهو تاج الخليقة_ يحكي في نشأته، وتدرّج
حياته نشأة الحياة كلّها على اختلاف صورها، وتدرّجها، ونموّها، أو ما يرد إلى
تماثل المنازع الإنسانية في جوهرها، ولو
___________________
1_ نفسه: ص103
2_ نفسه: ص 100
3_ حماد، حسن
محمد: تداخل النصوص في الرواية العربية: ص
34_35
4_ الحرز، محمد
: شعرية الكتابة والجسد ص 20 " بتصرف
".
تفاوتت الحقب
التاريخية " 1 "، وعلى الرغم من ذلك فثمّة خصيصة مهمّة ومحبّبة إلى
النفوس تشيع في بعض الشعر خصوصاً، والأدب والفنّ عموماً تقوم على جانب الخيال
والتطلع، وهما يبرزان بصورة أجلى وأظهر في الشعر، الذي يقترب في إطلالته من
الصوفية في رؤى أصحابها في التبرء من نوازع التراب، والتوجّه بالروح نحو القوّة
العليا من أجل بنائية خاصة تريد إنشاءها في الإنسان ليكتشف حقيقته، أو حقائقه
الإيجابية.
إنّ في شعر الخطيب
كثيراً من ملامح الصوفية وأبعادها التي تستند إليها أكثر من مرّة في بحثه عن
التحوّل من عالم يعيشه إلى عالم ينتظره، عالم البيت، والقرية، والوطن، والأمة،
والإنسان أينما كان، إنّ الخطيب ليقترب من
المعنى الذي يريد، من زمن روحي يحاول به اختراق كلّ الأزمنة والأمكنة الفيزيائية،
ليوقفنا على " أنّ الفصل بين الزمان والمكان أمر مستحيل، أو يكاد أن يكون
مستحيلاً، ولو استطاع شاعر أن يتصوّر مكاناً بدون زمان، أو زماناً بدون مكان لخرج
علينا برائعة من روائع اللامعقول" "2"، لذا يمكن القول: إنّ الوجود
عند الخطيب " هو لا شيء خارج الزمن الإنساني" "3".
أبطأتُ
حينَ ربطّتُ
الشمسَ، أوقفها
قلبي على دكّةٍ،
غيّبْتُ شِرْعتها
وصنتُ حالي،
وفرَّ العاشقونَ
معي
فضجَّ بحرُ دليلِ
الصمتِ،
كم نزفتْ
عيناهُ في نبعها
توشيحَ تذليلي
فقمتُ أرجمُ
سرّاً، والنفيرُ خبا
ظنّاً هُنا،
مُدناً،
_________________
1_ سركيس، إحسان:
لأدب الشعبي: ص 73
2_ القصيبي، غازي:
سيرة شعرية ص 175
3 عياد، د. شكري:
من الأصول الفكرية للحداثة ضمن كتاب قضايا وشهادات: ص 186
والعيرُ جمّلها
وكانَ شرخَ الثرى
صمتاً على
سعةٍ...،
يرمي الحصى في
برِّ قابيلِ
فقلتُ أهذي بروحي
والجنونُ معي
وسيرةُ القمحِ،
والكينا،
ومائدةٌ
جاورتُ فيها دعاءً
غير معزولِ. " 1 "
إنّ في هذا الشعر وغيره كثير يختفي وراءه
سرٌّ روحي لا يدركه إلّا الخطيب نفسه، ومهما حاولنا اختراق ما وراء كلماته لا نخرج
إلّا بالقول إنّ الشاعر يفتقد أشياء كثيرة، يتناثر قلبه شظايا من أجلها، ولكم يحنّ
إليها، ينتظرها، وهي لا علامة تبدو منها، ولا يأتي خبر، وفي هذا الشعر وغيره كثير،
يقترب الخطيب في إطلالته الشعرية من الصوفية اقتراباً شديداً، مستحضراً مؤشّرات
خطابه السيمولوجية، في نصوص كثيرة من شعره، هذا الاقتراب الشديد من رؤى الصوفيين
وأفكارهم، مستفيداً من أساليب التعبير الصوفي " ولغته الوجدانية المشتعلة
بالدهشة"" 2 "، لذلك نراه يقوم بتسليط أكبر قدر من التأثير على
المتلقي الواعي، ويستدعيه إلى شراكه، ويدخله دوائره المفعمة، بجلال العشق،
والإيثار، والكفاف الدنيوي، ويعلّمه حكمة الحياة الدنيا، ورحاب الحياة المنتظرة،
ويحذره من لوثات الخطايا، وعتمات الروح، وشهوات النفس، كل ذلك بمصطلحاته،
وتعابيره، التي تترى في عنوانات قصائد الخطيب وجمله الشعرية من نحو:
_ إيقاعات الوصل
_ كوثر الأسماء
_ رحلة الشك
_____________________
1_ الخطب: مرجع
سابق ص 371
2_ المقالح، د.
عبد العزيز: البوابات الجنوبية ص 19
_ أشجار الحقيقة
_ نهر معتق
_ حمالة الحطب
_ السبيل إلى
الموت
_الصورة ناقصة
_ شغلت بفائض
المعنى
_ الحياة وأسبابها
للأبد
_ ولدت هنا في نصّ
مرآتي
هذا على مستوى عنوانات بعض القصائد التي
احتواها ديوانه " حارس المعنى "، أمّا على مستوى اللغة داخل القصائد
فنقف على عبارات وجمل باذخة بالدلالات
الصوفية من نحو:
_ وجه التخفي
_ لغة الفقراء
_ نقائض الوضوء
_ رهط التجلّي
_ غارة الحب
_ جسد ناحل
_ العالم السفلي
_ عرق الجسد
_ انهض يا دليل
_ انتظار الأبد
_ الله من طرقي
_ يد الاتقياء
_ ناقة الأصفياء
_ صوف المدد
_ وطن المعتقد
_ شعر سائغ
للشاربين
_ إلى أين يمضي
الجسد
_ الريح موئلها
رباطي
_ سكرات الغناء
الأخير
_ سلة العشق
المباح
وغير
ذلك كثير مما يقترب به الخطيب من مقولات الصوفية وألفاظهم، وتعبيراتهم.
وعلى الرغم من أن
الخطيب يستدعي هذه الألفاظ والعبارات والجمل، ويستند إلى بعض رؤى الصوفيين
وأفكارهم إلّا إنّه يرسم لنفسه طريقاً خاصاً متوازياً مع طرائقهم المعهودة
والمتكاثرة، إنه صوفي معاصر، له لغته
الخاصة التي بخلق معانيها خلقاً، ويقف على رأسها حارساً، وهي تنام في كيانه:
العينُ بالعينِ
ابتداءً يا حفيدَ سلالة الرؤيا،
تقرُّ إذا بدا
لوحُ الزمانِ على الجدارِ،
كأنّهُ فيضُ
الدوالي
والعينُ بالرمشِ
المُدلّى خلسةً في الليلِ،
تقرأُ ما تشاءُ من
الليالي
وهيَ انكسارُ
الشمسِ في هُدُبِ الخوالي
وهيَ انتظارُ
الشوقِ بعد الذوقِ،
يحملُ نفْسهُ
الصوفيُّ
من حالٍ لحالِ
وهيَ الخيالُ إذا
مشى يوماً
على ثوب الخيالِ.
" 1 "
إنّ الخطيب قادر على أن يزاوج بين الروح
والمادة، العقل واليقظة، وأحياناً بين الحسيّة والشهوانية:
أنا المسكونُ
بالترياقِ
يا بلدُ
أجاري جارتي تأوي
لمنزلها
فأتبعُها،
وأحميها،
فيعقلَ ليلَها
الأبدُ
وأضبطُها مع
الأشباحِ كُمثرى
يُقشِّرُ ضعفَها
الجسدُ
فأسدلُ جُرحيَ
الوثابَ،
أحمي ضعفها،
وأقولُ: يا صمدُ. "2 "
________________
1_ الخطيب: مرجع
سابق ص 209
2_ نفسه: ص 211
إن الخطيب صوفي ثائر ، وليس بالغريب أن يوصف الصوفيّ
بالثورة، فالصوفيون ثوار، وإن كان لكلّ فرقة أو حلقة طريقة في
الفعل، هم ثوّار في تحوّلاتهم، ومكاشفاتهم، وأناشيدهم لجلال الحبّ، وهم ثوّار في
ابتعادهم عن مقاصد التراب الدنيوية، وهم ثوّار ضد شهوة الروح والجسد، وهكذا تتعدّد
الثورات، وتتعدّد أهدافها، " فالصوفية كأيّ مذهب فكري، أو فنيّ تتخذ أكثر من
منحى، وتتشكّل في أكثر من اتجاه، والجانب الحيّ والمشرق فيها هو ذلك الاتجاه
الثوري العميق الذي لا يرى التصوّف شعوذة وهروباً من الحياة، وإنما يراه مواجهة،
واحتجاجاً، وإبداعاً، وزهداً في المطامع، والانغماس في الملذات، لا زهداً في تحدّي
الظلم، والتعبير عن التمرد المشحون بالثورة على كلّ المفاسد، ولقد حاول عدد من
شعراء الحركة الجديدة الاقتراب من ينابيع الصوفية، ومن إشراقات تعابيرها، حاول ذلك
البياتي، وصلاح عبد الصبور، والفيتوري، وغيرهم، ونجحت المحاولةعند بعض هؤلاء
لغوياً، أو بالأصح نجحت في خلق لغة ذات دلالات رمزية متعدّدة، ومن دون أدنى قدر من
المبالغة فإن التجربة تصل عند شعراء السبعينات إلى مستوى تعبيري أرقى لا يقف عند
حدود اللغة، وإنما يتوحّد في الرؤية، ويتشكّل معها""1"
إنّ لعقل_ كما هو معروف_ أداة التفكير
الفلسفي، والروح أو القلب هما أداة التفكير الصوفي، ولهذا كان التصوّف فطرة قائمة
في النفس شأنه شأن التدين "2"، وشأن النزوع إلى الحرية، أو التمرد،
ورياضة الصوفي لنفسه، أو ترويضها بإتجاه الاغتراب، أو العزلة عن كلّ لوثات الباطل،
وتوجيه الإنسان نحو الابتهاج بالحق، والدعوة إلى السمو الروحي، وغير ذلك ممّا يوصل
إلى صفاء النفس، ومحاسبتها، والانتماء إلى الفقراء، البسطاء، الكادحين، وتوطين
الروح على الإخلاص، والمحبة، والفعل الجميل، وبذلك يشتبك الدم بالدم، ويلتصق الجذر
بالجذر، ويصير الحبّ محبة مستمرة أبداً.
____________________
1_ المقالح: مرجع
سابق ص 28
2_ ينظر: خفاجة،
د. محمد عبد المنعم: الأدب في التراث الصوفي
ص 9
...فيا شعرُ بلِّغ عن الشيخِ
ما
قد تخفّى على الشعراءْ. "1"
///
الله من تركيبةِ
المبنى
ومن سَفَرِ
الجمالِ على لساني
أشعلتُ جذرَ
القمحِ في ليلي
وغلّفتُ الندى
بجمالهِ،
ونحتُّ ظلي،
كم نحتُّ،
ولم أرَ الوجهَ
المخاتلَ تحت رابيةٍ،
ولم تنقشْ أصابعها
على وتر الكمانِ. "2 "
وإذا كان الصوفيون قد انهمكوا في بيان
الصفات، والصفات المنجية، فقد فعل الخطيب ذلك، ولكنّه لم يقف عند حدود البيان،
وتأشيرة هذه الصفات موجبها وسالبها، ولكنّه أعدّ عدّته إعصاراً ضدّ كلّ الحوائل
التي تترصد ذاته، وتشخص في طريقه، وهو ينظر الحياة والآخرين، ممّن تبقّى فيهم شيء
من الإحساس الجميل بالحياة، وممّن باعوا كلّ شيء من أجل الحياة، وممّن يرزحون تحت
وطأة الفقر، وضياع العمر، معانقين جراحهم:
كأنَّ الشّعرَ ينسجُ طاقة الرؤيا،
فيدركُها أبي،
فأبوحُ: يا بيتي
أنا المحتاجُ للمعنى،
وأمي شتلة الليمونِ
للشعراءِ يعتكفونَ خلفَ ظلال أقراني
وعنواني: طريقُ البأسِ واللايأسِ،
فاقرأ يا دمي طقسي.
وعنواني: طريقُ البأسِ واللايأسِ،
فاقرأ يا دمي طقسي.
_____________________
1_ الخطيب: مرجع سابق: ص 176
2_ نفسه: ص 305
نحوي
أنا
هذا الغمامُ
وكلُّ أنثى لا تني في نفْسها ريحي
يُضارعُ صمتها حزني النحيلْ
هذا أنا
أنا
هذا الغمامُ
وكلُّ أنثى لا تني في نفْسها ريحي
يُضارعُ صمتها حزني النحيلْ
هذا أنا
يا بيتُ عمّرني الخروجُ من الدخولِ،
وقامتي مرويّةٌ، فاهدأْ
أنا لي وِرثةُ السيف الصّقيل
وأخوتي جبلوا دمي،
وقامتي مرويّةٌ، فاهدأْ
أنا لي وِرثةُ السيف الصّقيل
وأخوتي جبلوا دمي،
فأبيتُ قتلي
وانتبهتُ إلى البكاء المستحيلِ. "1 "
وانتبهتُ إلى البكاء المستحيلِ. "1 "
إنّه الصوفي الناهض دائماً، وإن كان بقايا
رضوض وحطام، وفرق شاسع بين أن يعيش بعض الشعراء المجدّدين الوهم، والتجريد،
والخيال العقيم، ومن ثمّ الاغتراب والعزلة، والتمحور حول الذات، والاستسلام أمام الواقع المتصدّع، والمتشرذم،
ليعكفوا على مباشرة ذلك كلّه بوصفه مسلمات قارّة لا يمكن التعامل معها، وبين
الشعراء المجدّدين الذين ينطلقون من ذلك الواقع، مسلحين بالقدرة على تشخيص أبعاده،
وفهم قوانينه، واستيعاب شروطه، إنّ التجديد الحقيقي يقتضي انشقاقاً وافتراقاً عن
كلّ أوجه التنظير المجرد، والتسويق اللفظي، وأنصاف الحلول، فمن السهولة جداً أن
تكتب نصاً شعرياً، أو نثرياً يحدّد الواقع، أو ينظر فيه على مستوى الشعارات
العابرة، ولكن الصعوبة تكمن في أن تبدع نصاً قادراً على إيقاظ وعينا الجماعي،
وتطويره عبر مقاييس معرفية ولغوية، وبيانية، ودلالية، وإيقاعية هي محور الإبداع
وأساسه الأصيل،" إنّ التجديد الحقيقي هو أفق، طريق إلى المستقبل والحياة
الصحيحة، وذلك يتطلب من المبدع الالتزام بالمسؤولية الأدبية والاجتماعية
والأخلاقية" " 2"
وإلّا أيّ صنيع هذا الذي يعيننا على أن نهب
أرواحنا مأوى وملجأ
_____________________
1_ نفسه:
ص 327_328
الناقوري: إدريس: مدخل إلى مفهوم التجديد
في الأدب المغربي: ( بتصرف ) ص 176
لأغرِفَ من صلاة الحرفِ
شكلَ الصّرفِ
إيقاع الجوى
والنزفِ،
منديلَ اشتهاء العازفاتِ،
خيامَ زينبَ،
والتواءَ الرقصِ
تفّاح الكتابةِ
والغيابةِ
والسّحابة
والصبابةِ
والغرابةِ
وانتجاع السيفِ في لغةِ الكفاية
والغواية
والكناية
والسّقاية
والجباية
والنهايةِ
واندهاش الصّقرِ. "1 "
شكلَ الصّرفِ
إيقاع الجوى
والنزفِ،
منديلَ اشتهاء العازفاتِ،
خيامَ زينبَ،
والتواءَ الرقصِ
تفّاح الكتابةِ
والغيابةِ
والسّحابة
والصبابةِ
والغرابةِ
وانتجاع السيفِ في لغةِ الكفاية
والغواية
والكناية
والسّقاية
والجباية
والنهايةِ
واندهاش الصّقرِ. "1 "
هو في وسط هذه الذوات المتقابلة تقايلاً حادّاً يذود عن نفسه، وعن الآخرين
ممّن يمكن أن يسمعوا صوته ويردّدوه.
إنّ الخطيب صوفي يمارس شجاعته وثورته
المعلنة ضدّ كلّ خلل في الموازين، والقيم،
والمبادىء، والأخلاق، والأعراف ، والحبّ.
هو صوفي راحل دما، وأعصاباً هلامية
ترى رؤية العين المجرّدة.
إنّ أوّل المطحونين في هذا المزيج البشري
الذي ألفه الخطيب الإنسان، هو الخطيب نفسه الإنسان والشاعر، ومع هذا لم يكن من
السهولة أن يضيع هذا الإنسان الشاعر في زحمة السائرين، وكثافة غيم الزّمان، وغيم
المكان:
كم رقمتَ من الخيول على الجريدة
فانتفض، لتمرّ مثل حمامة حمراءَ في ليلٍ
قتيل
يا أيّها المعنى البديل
_______________
1_ نفسه: مرجع سابق : ص 324_325
لكلّ الذين تقطّعت بهم أسباب الحياة
والنجاة:
ولي أن أتبع السبب الأخيرَ
إذا عرجتُ إلى الرصيف
تكلّمت أرواحنا،
أرواحنا
مأوى لعابرة السبيل. " 1 "
وكيف
لنا أن نفهم معنى الشهادة إذا لم تكن " نصف على الرمح يمشي، ونصف على الأرض
قمح وماء"، وكيف لنا ذلك إذا لم نميّز بين من يدّعي زيفاً " نخوة السيف
"، وبين من يشهر سيفه علناً، وإذا لم نميّز بين من تتوحد روحه بحبّ الآخرين
فيسوق هواه إليهم في كلّ لحظة بهم يبدأ حبه، وبهم ينتهي، ومن لا ألف التبرقع
بالزيف مصطفياً السراب:
قال أبي: في افتراش الشهادة
ليسوا سواء
وأبي في الحقيقة
نصف على الرمح... يمشي
ونصف على الأرض قمح وماء
وما بين قمصانه يجلس الأصدقاء
ففكّر كيف السبيل إلى الموت
فكّر،
ثمّ اهتدى للفيوض التي أثثتها
يدُ الاتقياء."2"
لقد أظنت الخطيب عذابات الناس، وقلقهم، وجوعهم، وتلوّث هذا العالم المحيط
به، إذ نام الإنسان، بل مات الإنسان إلّا من غرائزه وانقلبت ألوان الأشياء،
وتشابكت الخطوط، وانحرفت النسارات، وصار العمر مصدر جوع، وأضحى الأمل عتمة، وباتت
الرغائب دافعاً للسطوة والقهر، والعشيرة قصداً ومناورة، وكلّ شيء ينمو في الأيام
كما ينمو ويتناسل السرطان في جسد الكون، وما في الكون
_______________
1_ الخطيب: ص 114
2_ نفسه: ص 214
كلّ ذلك يراه الخطيب جلياً ساطعاً، فيألم
كما يألم الآخرون من أمثاله، فيحاول جاهداً أن ييمّم وجه لكل الجهات لا هرباً، بل
محاولة للبحث عن وهم، فرصة للخلاص، ولكنّه اللاشيء، أحزان الطفولة، وأأحلاء لا
تصطاد، وأوبئة تسرق منّا الأعزة، وابتلاء
يدعونا إلى الاستسلام، ونسيان الآمال في أن يأتي الذي لا يأتي، وتبق قصيدة الخطيب
تضقم ما تبقى من حبال عمر الخطيب، وأنّى له من حنان يعينه على ترتيب الآصرة بين
تبغ القصيدة، ورئته، ويعينه على تحقيق حلم ناءٍ أبداً، فالزمان والمكان يقتلان
الممكنات الواقعية لهذا الحلم، وعبر القصيدة يشرع الخطيب في تفريغ بعض أساه، ونشرع
نحن نقرأ الشعر بالصحو على عالم مفقود نستعيده مع الشاعر أمكنة وأزمنة في حياة
الذاكرة:
ففي النسيانِ
ريحٌ،
والمدى سيْلٌ من
الأحجارِ،
والأنباءِ،
أوقفني على رئتي،
ولم يرمِ الحدود
بنصل سكينٍ مقلَّمةٍ،
ومحبرةٍ، ومائدةٍ
على عجلٍ
وجدتُ الصّبر فيها ذائباً،
ويدي تحاولُ طهيَ
روح الخوفِ،
أرجأني إلى النسيانِ كم يمضي صداهُ إلى فضاء
الفجرِ،
يستحيي من الغزلانِ نائمة على قَدَرٍ،
أنا ابن
الحارتينِ، ولدّتُ من قبلي على أثرِ الجمالِ،
فهزّني تاريخُ أندلسٍ،
محاكمُ قبل ريش
الفجرِ تستدعي أجنّتنا،
وتنهانا عن
النّسيانِ،
///
ومن عَرَجٍ
أرى فوضى الإمارةِ
لا تبيضُ،
ولا رمادَ على
الطريقِ إلى المدينةِ،
زُخرفي علمٌ على
درجٍ
وبعض جنائني
مفتوحةَ المعنى،
ومغلقةٌ شواطئها أمام تزاحم الزوّار،
بعضُ مقاطعي جبلٌ
من الألغام،
///
كنّا قبل فضفضةِ
السحابِ،
نطيلُ أقفاص
الحياةِ،
ونجتبي مُدناً
معلّقةً على خشبِ الصّليبِ،
نقيمُ متحفها على
ورق الخريفِ،
ونجتبي أمماً
مسالمةً،
وتنهضُ من غبار
الصمتِ،
تسأل عن غبار
الوقتِ،
تجمعنا على طبقٍ
من الفوضى،
فَنَسْعَدُ
بالمساءِ،
نكوّرُ الجمرَ
انقباض يدٍ ونبسطُها،
ولا خشبٌ، ونحبطُ
بعض ذاكرةٍ
إذا فاقتْ على
طينٍ تجمّعَ في منازلهِ. "1"
وعلى الرغم من كون الخطيب صاحب لغة استعارية بامتياز، فيها من كثافة
المجازات، لا سيما الاستعارات، والكنايات ما فيها، وهذه المجازات والاستعارات
والكنايات، والرموز قد عمّقت المعاني، وأكّدت أنّ النصوص الشعرية الجيدة " لا تتكوّن من أفكار بل من
كلمات" على ما يقول: ( ملارميه ) "2 "، وعلى الرغم من كون الخطيب
أيضاً شاعراً معبأ إلى حدّ الترف بالكلمة الأنيقة المتّقدة التي يستند فيها إلى
الوعي المعمّق بإمكانات اللغة ودقائقها، ومفارقاتها الدلالية والإيحائية، بما جعل
أكثر شعره نسيجاً يدور في جماليات الوعي ودلالاته بعيداً عن المباشرة في التصريح
بهذه الدلالات في أبعادها الفكرية، أو الاجتماعية، أو السياسية، أو الروحية
________________
1_ الخطيب: مرجع سابق: ص 336 وما بعدها
2_ ينظر: جورج شتابيز: علم اللغة وفن
الشعر: ص 68
بحيث يوجّه ذائقة المتلقي نحو هذه الدلالات من غير أن يبوح بها، أو يرمز لها،
وإنما يترك للمتلقي استدعاءها بايحاءاتها الممتدة، إذ يقول:
هذا الوضوحُ حجابُ مرتبتي،
وإيواني
وأشياءُ اللممْ
في كلِّ حرفِ مُغْتَنمْ
وَجَدَ الغريبُ لفافةً في التبغِ، أرّقها،
وسرّبها إلى رئةِ الجروحِ،
وأشياءُ اللممْ
في كلِّ حرفِ مُغْتَنمْ
وَجَدَ الغريبُ لفافةً في التبغِ، أرّقها،
وسرّبها إلى رئةِ الجروحِ،
وقالَ منْ للرملِ في سكراتهِ الأولى،
ومنْ للناي، منْ؟!!
الصمتُ أنْ...،
والرّصدُ عَنْ...،
والموتُ جَنْ...،
والرّصدُ فَنْ...،
والجسمُ حَنْ...،
والرِّقُ ظنْ...،
والدّمُ كَنْ...،
والظنُّ أشكالٌ، ولي سيلٌ تعتقَ في الجبالِ
ونزعةٌ في الروحِ، أعراضُ محجّلةٌ...،
وكأسٌ
من حليبِ الظلِّ مختومُ. " 1 "
الصمتُ أنْ...،
والرّصدُ عَنْ...،
والموتُ جَنْ...،
والرّصدُ فَنْ...،
والجسمُ حَنْ...،
والرِّقُ ظنْ...،
والدّمُ كَنْ...،
والظنُّ أشكالٌ، ولي سيلٌ تعتقَ في الجبالِ
ونزعةٌ في الروحِ، أعراضُ محجّلةٌ...،
وكأسٌ
من حليبِ الظلِّ مختومُ. " 1 "
وعلى الرغم _ ثالثة _ من أن
الخطيب شاعر ذو إحساس مرهف وذائقة موسيقية إيقاعية قلّما نجدها في كثير ممّا يقوله
من يريدون أن يفرضوا أنفسهم على الشعر فرضاً بعد أن يتزيوا بلباس ما يُسمّى بقصيدة
النثر، أو الشعر المنثور، واختفوا تحت أقنعة كلام هو أبعد ما يكون عن الشعر، وأقرب
ما يكون إلى الثرثرة.
أقول على الرغم من هذا كلّه،
نألف في الخطيب قدرة على تلوين شعره بمعان مستجدّة ومبتكرة جاذباً المتلقي إلى
رحاب نصوصه الشعرية.
______________________
1_ الخطيب: مرجع سابق ص 355
بهذا الإيقاع الذي ينساب في القلب قبل
السمع، خالقاً طابعاً غنائياً يدفع إلى أن يسابق المتلقي كلماته في رنها، ونقراتها
قبل أن يقولها هو، ما دامت هذه الكلمات يخلق بعضها بعضا، ويوحي أوّلها بتاليها في
نسيج شعري أخّاذ يوائم بين الحركة والإيقاع، ودوننا في ذلك قصيدته الرائعة "
كوثر الأسماء" التي بناها على مقطع ثلاثي طويل، متشكّل في أغلب صوره من
اندماج صوتين صامتين، وصوتين صائتين، قصير، وطويل، أعني به:
ص+ ح + ح + ص
الذي ظلّ ينفذ من جسد القصيدة كلّها،
وكأنّها تتدفق من خفقات صدورنا، ليطرق أسماعنا حركة واضطراماً وطرباً:
هَان / جَان/ بان/ دان/ نان/ لان/ ران/
تان/ كان/ طان....إلخ، إذ يقول:
لا تُفشِ سرّاً
إن رأى ريش
النعامةِ،
أو دعاكَ إلى
الحقيقةِ راهبانْ
فلكلِّ ريحٍ
صولجانْ
ولكلِّ مغناة هنا
في الروح
يرقصُ بهلوانْ
ولكلّ موتٍ
حاجبانْ
ولكلّ طفلٍ لثغُ
حرفٍ من حنانْ
ولكلِّ أغنيةٍ
قيانْ
ولكلّ مسألةٍ
غيابةُ أرجوانْ
ولكلِّ ساريةٍ
هواءٌ، لا يدانْ
ولكلِّ ثوبٍ قيلَ
ينسُجُهُ فلانْ
أرجوحتانْ
فبأيِّ إيقاعٍ
تُرى يتهامسانْ
الموتُ
والإنسانْ!!!
______________________
1_ نفسه: ص 315
وكذا قصيدته ( راغ الفراغ وأنساني نفاصيلي)
"1" الطافحة بالإيقاع الأخّاذ، وبالكلمة المدمّرة لثرثرة اللغة والمتعالقة
بإحكام فنّي أصيل بغيرها من الكلمات، ليكتشف الشاعر عبر هذا التشابك والتعالق كلّ
مناطق الظلمة بالغاً شأوه الذي يريد.
أخيراً إنّ كلّ الذي ألفيناه في شعر الخطيب
لا يمنع من أن نشكو أمر هذا الغموض والتمويه الذي يطفو على بعض نصوصه الشعرية التي
تقوده إلى هبوط في الخطّ البيانيٍ المتصاعد لشعره فينا، وتعمل على مدّ الهوة
الواسعة بين المقول الشعري ودلالاته، ومن ثمّ بين المقول الشعري ودلالات الواقع
نفسه، ثمّ أنّه يعطّل كثيراً من فعل
القصيدة فينا، ويهدم صروحها، لتصبح ضباباً، أو صخباً، أو ألواناً باهتة نلصقها على
قراطيسنا، أو ألستنا لصقاً، فكأنّنا لسنا
مع الشاعر الذي عرفناه، وهو يلقي على أسماعنا، وخلجاتنا كلاماً جميلاً معمّقاً
يفصح عن تجارب محصّنة بالوعي، والثقافة الجمالية، واللغوية.
إنّ النصّ الشعري الجيد ليس كتلة لغوية
صماء صلدة، أو مجرد تشكيلات لغوية مسرفة في الغموض والتكلّس، بل هو شبكة من
العلائق الصوتية، أو الإيقاعية، والبنائية، والتركيبية، والدلالية، المفترض فيها_
إذا تهيّأ لها مبدع كالخطيب_ أن تفتح مغالق الإنسان وعالم الإنسان، وأن يبتعد بالاستناد إليها عن كلّ ما يعلق بالفن
الشعري، ويأخذ بروائه، وصفائه، ونبضه، وما أبعد الخطيب حين يقول:
الشعرُ
إذا قمتَ تأكسدهُ في فنجان القهوةِ،
خفَّ حصانُ العشبِ على قدميهِ...،
إلى مُدنِ يغشاها البلحُ
وجهُ الدائرةِ ثلاثيُّ المعنى
والفجرُ إذا انبلجَ الضوءُ من المبنى
____________________
1_ نفسه: ص 367 وما بعدها
مُكتملاً، كحّل عينيهِ الفرحُ
وجهُ الدائرةِ ثلاثيُّ المعنى
أوّلهُ الحَدَثُ
المُحْدثُ
ينفرُ من منفاهُ
إلى منفى يفقدُ ألَّ التعريفِ،
وثانيهِ يدوخُ إذا زوّجهُ لخيامِ
يمامٍ
وكلام،
والثالثُ طرحٌ يعلوهُ الجمعُ
وفاعلُهُ الفاعلُ منفعلاً يكسرُ حِدةَ
إيقاع النَّفسِ،
ويُكْملُ دورتَهُ في المفعولِ، ويفلتُ
بالفعلِ إذا انفعل الفعلُ،
ومعنى الجملةِ أن التركيبَ إذا انتزع الحرفَ عن
الحرفِ،
يموجُ بآخرِ ما بُنيَ من اللغةِ البكرِ،
وينسرحُ. " 1 "
إنّ في هذا الشعر إسراف في البحث عن المفردة
أو العبارة، أو الجملة ذات التشكيل الخاص، والدلالة المموّهة والغامضة، وهو تعطيل
لما يفترض أن يكون في الشعر الجميل من مزاوجة بين الوظيفة الشعرية ( الجمالية )
للغة التي ركّز عليها ( رومان جاكيسون) " 2 "، والانحياز إلى ( الوظيفة اللعبية ) التي تعني
استخدام اللغة أحجية، وتسلية، وإسرافا في البعد والتعقيد، وذلك خرق للقانون اللغوي
من جهة، وخروجاً على الحدود الجمالية المعهودة في الشعر.
إنّ التحايل على الشكل اللغوي مقبول إذا
جرى وفقاً لأنظمة اللغة، في إمكانيات التورية، والجناس، والترادف، والمجاز،
والسلب، والقلب، والانزياح، ولا يمكن أن تكون مقبولة، إذا كانت مسرفة في الغموض،
نافرة في السمع، عصيّة على الفهم، فالشعر أحد
_____________________
1_ الخطيب: مرجع سابق ص 178_179
2_ ينظر: د. يوسف غازي: مدخل إلى الألسنية
ص 56_57
أبرز وجوه الكلام الإنساني الذي يقوّم اعوجاج
اللسان، ويربّي الذوق، ويفتح الآفاق، ويعزّز قيم الجمال.
إنّ في شعر الخطيب حداثة متطوّرة، وتجديداً
في سيرورة القصيدة العربية، وانهماك بسحر الكلمة، وعوالم الجمال، وانحياز إلى
البيادر المترفة، والروافد الإنسانية العذبة، في عالم يمضي إلى متاهات من التصحّر
الذي يأتي على آماد الروح، وخفقات القلب.
إننا نحسّ في شعر الخطيب بفنّ يبزغ من
دواخل الفنّ الشعري وليس من خارجه، هو تجديد يقوده الوعي بالتجديد نفسه، أليس
العقل هو الذي يصحّح نفسه؟.
إنّ الخطيب شاعر تدور به الأزمان والأماكن
وأشياء دفينة أخرى، إنسان يتحرّك داخل
الحزن، والشاعر الذي لم يكتب بدموع أحزانه نشكّ نحن في شاعريته، والحزن والعدوانية
نقيضان لا يلتقيان، لذلك كان الخطيب حتى في غضبه، وثورته، وتمرّده أبعد ما يكون عن
العدوان، إنّه صوفي منشق، انشقاقاً صاخباً، ومستفزاً على نفسه أولاً كما يفعل
المتصوفون، ومنشق انشقاقاً عصيّاً على الفهم أحياناً.
لكنّ الخطيب يبقى في كلّ الأحوال قامة
شعرية واضحة البصمات على حركة الشعر الأردني المعاصر.
( روافد الدراسة )
1_ الأسعد، محمد: وعي اللغة أم لغة الوعي_
الفكر العربي المعاصر / بغداد / 1987م
2_ باشلر، جاستون: جماليات المكان. ترجمة:
غالب هلسا_ بغداد / 1980م
3_ د. حسن ناظم: أنسنة الشعر، مجلة ( جدل )
العدد " 1" بغداد / 2006م
4_ الحرز: محمد: شعرية الكتابة والجسد:
الانتشار العربي / 2005م
5_ حماد حسن محمد: تداخل النصوص في الرواية
العربية_ الهيئة المصرية العامة للكتاب_ القاهرة
6_ الخطيب، أحمد: حارس المعنى: وزارة
الثقافة الأردنية _ عنان / 2010م
7_ خفاجة، د. محمد عبد المنعم: الأدب في
التراث الصوفي_ مكتبة غريب_ القاهرة/ 1998م
8_ سركيس ، إحسان: الأدب الشعبي وألف ليلة
وليلة.مجلة دراسات عربية _ العدد " 8"
السنة "14" دار الطليعة_ بيروت / 1978م
9_ شتاينر، جورج: علم اللغة وفن الشعر.
ترجمة: ناجي الحديثي_ بغداد / 1988م
10_ د. عز الدين إسماعيل: ظاهرة الحزن في
الشعر الحديث_ مجلة آفاق عربية _ بغداد/ 1987م
11_ عياد .د. شكري: من الأصول الفكرية
للحداثة_ من كتاب قضايا وشهادات_ مؤسسة عيبال / 1991م
12_ القصيبي، د. غازي عبد الرحمن: سيرة
شعرية_ دار تهامة للنشر والمكتبات السعودية/ 1424ه
13_ المقالح، د. عبد العزيز: البدايات
الجنوبية_ دار الحداثة_ بيروت / 1986م
14_ الناقوري، إدريس: مدخل إلى مفهوم التجديد
في الأدب المغربوتي ( بحث ): مجلة الآداب اللبنانية_ العددان 11_12_ بيروت/ 1981م
15_ نهر، د. هادي: عدن وأناشيد البحر_ دار
الأمل_ إربد / 2006م
16_ هانزميرهوف: الزمن في الأدب. ترجمة:
أسعد مر زوق _ بيروت
17_ د. يوسف غازي: مدخل إلى الألسنية_ دمشق
/ 1985م
0 Comments: