من أحوال العائلة



1- أنا المشتهى يا أبي



أنا المشتهى يا أبي
والنساءُ مرايا
وقفتُ على آخر العمرِ
لَمْ ينطو الأرجوانُ على شفتيَّ
انتكستُ كثيراً
لأني انسحبتُ أمام النساءِ إلى خلوةٍ
أستعيدُ رؤايا
وفي آخر العمرِ قامَ شبابي إلى بابهنَّ
ولَمْ يزجُرِ الشيبُ رملَ الغرابةِ
لكنَّ خوفي من الريحِ
قال استترْ في النوايا
لأنَّ إلى الصّقرِ تمضي الصبايا


2- بين أخضورتينِ وماء



بين أخضورتينِ وماء
زُرتُ قبر أبي مرّةً
حينما عاد قلبي إلى حيِّنا
زرتُهُ مرّتينِ
وقد أسكر الدهرُ عينَ الزيارةِ
قلتُ: إذنْ يا أبي
ها أنا أعبرُ الآن من وعينا
نحو أرض السماء
زرتُهُ مرّتينِ، ثلاثاً
وعدتُ إلى قبرهِ
بعد أنْ قيّدوني هنا
في المرايا


3- أمي



أمي ما ماتت إلا حين رأتني
أكتبُ في السّرد روايتيَ الأولى
ورأت أبطالي يخترقون الأرضَ
وأنفاسي كأسي

أمي ما ماتت إلا حين رأتني
أخلع من وجعٍ اللبن الصافي
ضرسي
لحظتها نامت أمي
فبكيتُ
ولكنّي شاهدتُ سماءً تهبطُ من جنّتها
تسندُ رأسي
أمي لَمْ تذكر يوماً أن أبي عاتبها
وَهْيَ ترتّبُ جملة منزلها ذات ضحى
وقبيلَ ذهاب الروحِ إلى بارئها
قالت لي كيف أسوّي حطبَ الدارِ شموساً
وأعارتني كلَّ صبايَ
لأَذكُرَ كيف أقام أبي جملتهُ في المنزلِ
بعد خريف الروح
وكيف خطا في جنتها ومحا

القوسُ الأوّلى في المرثيّةِ أمّي
كانت تسترني من عُري زماني
وتشذّب أفكارَ بياني
وتقلِّم أشجارَ الليمونِ وترعاني
غابتْ أمّي في علياء الوجدِ
ولَمْ أسطعْ أنْ أرقبَ شمسَ يديها
وحزنتُ عليها
وتركتُ كماني


4- ولد



ولدٌ كان قديماً مثل أبيهِ
ولدٌ فاضَ عن المرعى
ونما كالظلِّ على وجه التشبيه
ولدٌ لا يحملُ غير قصائد حبٍّ ودواوينْ
ولدٌ وحزينْ
دخل البيتَ من الباب الغربيِّ
وشاهدَ إرثا
فدعتهُ الأنثى
حتى يستسلم للشهوةِ
لكن غيّرَ قرص الشمس كعادتهِ
فرأى العالَمَ تحت هدير الموتِ ينامُ
وينفثُ حرْثا
ولدٌ لَمْ يكنْ خائفاً من رياح الطريقْ
ما رأى أمّهُ الآمنةْ
كيف ناحتْ عليهِ
وكيف احتوتْ جمرَ أحلامهِ
كيف غابتْ بعيداً
وما تركتْ للخطى من بريقْ

ولدٌ لَمْ يكن في القواميسِ
حرفاً جسوراً
ولَمْ يكن فاتحاً للصباح
قال لي حين خبّأتُهُ في دمي:
كيف تسعى إلى الموتِ وحدكَ
في ليل هذا الجفا
ولدٌ ما مَحا غير أيامهِ البيضِ
حتى إذا ما وعى سرّنا
قال لي: أيُّ معنًى إذن للقميصِ
وقد زوّجتْهُ الرؤى للحريق
خزّ طين البيوتِ بأكمامهِ العارياتِ
ومال إلى ساحةٍ كان فيها الرضيونَ
مثلي سكارى
وقالوا لهُ: يا طريد الجناياتِ
هل زوّجتْكَ الخطى البالية؟!
لموتٍ قريبٍ نما في حدود المخيم
والله أعلم!!
هل وعى أنّهُ في مَمرٍّ يضيق؟

  

5- طائر العِشْرة:



في يوم الجمعةِ من كانون الثاني
قبل العيدِ بأيامٍ
ماتَ الطائرُ في الشارع
تحت هدير العجلاتْ
فرأيتُ بأنْ أكملَ ما خطَّ على ريش الكلماتْ
من جُملتهِ عن تابوتِ اللغةِ المنقوطةِ
جُملتهِ عن صقرِ الغاراتْ
عن فائض ما كان من الموتِ
على كلّ الجبهاتْ

في يوم الجمعةِ داخ الوقتُ
وما زالت امرأتي تبحثُ عني
في عين الطرقاتْ
وأنا أبحثُ عنها في دمعة أمّي
وأراها تصرخُ في جمر تحسُّرِها
-         طائرُ عشرتنا ماتْ!



6- أبناء



الجندبُ لَمْ يقفزْ عن ثوب الريح
ولَمْ يلضمْ في الخلوةِ شيئاً من أورادي

في الساعة بعد الليلِ يزيدُ قليلاً
كنتُ وحيداً أتفرَّسُ في أولادي

أيقظتُ الأنثى منْ هالتها
وركضتُ إلى إنشادي

هذا اليوم طويلٌ
فتعالي نشربُ قهوتنا
وننامُ حيارى قبل ولوج الموتِ
إلى غربتنا
ونؤنّثُ في الحبرِ قصائدنا

أيقظتُ الأنثى من دمِها
فرأتْ في وجهي بعضَ خشوع الموتِ
فقالتْ:  يا أولادي
فاستيقظَ أكبرهُمْ ورعى دمعتَها
وأهال ترابَ الخوفِ على قبري
واستيقظ أوسطُهمْ
وتجرّعَ كأسَ مرارتهِ في الخوفِ
فضمّتْهُ إلى الصدرِ
وقال الطفلُ الأصغرُ: يا أمُّ أنا
سأكونُ رفيقَ مسلَّتهِ
فبكتْ
لكنَّ أصابعهُ قفزتْ من فوقِ الريحِ
... أنا خبرٌ مرفوعُ القامةْ!!


7- مرثاة أخت


أُصبِّرُ نفْسي
أيا نفْسُ هل تجزعينَ لموت أتى فجأةً
واستدار كظبي جريحْ
قليلٌ هوَ الملحُ
أقلّ من الورد لَمّا يراودُ جرحي
ويأوي إلى روح قلبي لكي يستريحْ

أصبّرُ نفْسي
فيا نفْسُ ما لي أراني أعدُّ الدقائقَ
أجلبُ صمتي 
عسى أنْ ترفّ الجفونُ على باب روحي
عساني أردّ النهارَ إلى ليلها
والربيع إلى حضنها في كلامٍ فصيحْ


8- أمنية



وأنا جدُّ مُتعبْ
رأيتُ حصاناً يدوخُ من الحبلِ
قلتُ لعلَّ أبي شدَّ حبل الكلام
على جيدهِ
فاختلستُ دقيقة صمتٍ
ورحتُ أفتّشُ عني
فَلَمْ أجدِ الماءَ في دورق الأغنيةْ

اختلستُ دقيقة بوحٍ
فعاد أبي في المساء إلى نومهِ
وانتظرتُ
وفي جوف هذا السحابِ دمٌ                     
لا يجيدُ التصالحَ
أو يعقدَ الأمنيةْ

قلتُ، حدساً، لعلّ أبي لا يراني
لهذا سأُخرِجُ هذا الحصانَ من الأقبيةْ
ثمّ أبحثُ عني إذا سحبَ الأغطيةْ



إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x