من أحوال الشاعر



          -1-
لو حنّط كلُّ الشعراء الصلصالْ
ما غابت عن ذاكرتي الرؤيا
لو حنّطتُ المفردة الأولى للتمثالْ
ما عرف الشعراءُ ثريا
ما بين المفردة الأولى والصلصالْ
سبعُ سماواتٍ وأراضينَ
وما بينهما تفتح ذاكرتي الدنيا

          -2-
قال الشاعرُ
في وصف الذاكرة الشعريةِ
شيئاً
ويضاف إلى أعصاب الأسطورةْ
شيئاً إن جئتَ تحرّكُهُ
هفهفَ بالثوب
- أمامَ خيالات نُشِرَتْ فوق الأرضِ  
وتحت الأرضِ وما بينهما-
نايٌ في قصب الصورةِ
شيئاً لا تقدرَ أن تحكُمَهُ
ويعيشُ على إيقاع فتاةٍ غجريّةْ

          -3-
العُرَبُ الصوتيّةُ
في الحنجرة السفليةِ للصلصالْ
حين أتيتُ أشبُّ على صوتي
نفختْ دمع صباها
في جسد الموّالْ
عرّتني من وجعٍ
لا يدخُلُهُ القابضُ جمراً
إلا حين يكون الحالُ بديلَ الحالْ
العُرَبُ الصوتيّةُ
أوّلُ امرأةٍ تبكي
في آخر جملةِ ريحٍ حنّطها التمثالْ

          -4-
مرَّ شبيهي
مرّ كما لو أنّ سماءً
هبطتْ من خلوتها نحوي 
وأعارت أنثايَ سماءً أخرى
أوّلُها نجمٌ
آخرها بركةُ ماءْ
مرّ شبيهي
لكنّي حين جعلتُ الشعرَ
سماءً حبلى
أمّرني الشعراءْ

          -5-
أستنبتَ أوّلَ تجربةٍ للقنصْ
دخلَ المحكيُّ إلى المتخيَّلِ
القابضُ جمرَ التأصيلِ إلى ماء الشعرِ
الصاعدُ بركانَ العصرِ الحجريِّ
إلى ثورتهِ في السّردْ
والناطقُ باسمي
يوم ولدتُ
ويومَ أموتُ
وأبعثُ حيّاً

          -6-
مفردةٌ في النصّ أزيّنها
إذ تحملُ قامة روحي
وأدوّنها فوق جناح الأرضِ
وأقطف لؤلؤها
وأذوبْ
مفردةٌ لَمْ تنزع عنّي بابَ الأسطورة
إلا حينَ رأتني أكتبُ سيرتها
وأتوبْ

مفردةٌ بين الواضح والغامضِ
تطرح جمرتها، وتغيبْ

          -7-
الردهةُ في البيتِ
حياةٌ لخروج الشاعر من عزلتهِ
وخيالٌ يفضي بالصورةِ
إذ يعتاش على عائلةٍ مستورةْ
الردهةُ في أعراف الناس المنسيينَ
مكانٌ للحلم
وأنا في النصّ
أحاولُ أن أبني بيتاً
قرب مذابحنا المأجورةْ

          -8-
هل كنّستَ الشارع
أم وسوسَ بابُ الريحِ إليكَ
بأن تمشي وحدكَ في السردابْ؟
أم أن الليلَ تأخّرَ
أكثرَ مِمّا يتوهّمُ طيفُكَ
أم أنكَ صيّرتَ خطاكَ إلى الفوضى
وجلستَ وحيداً
لا امرأةٌ ترقبُ فيكَ دُوارَ الشعرِ
ولا نايٌ يتنهّدُ تحت دمِ العنّابْ
أم أنكَ مثل طنينِ النحلِ
تذوبُ على كُمّ الوردِ
إذا ما انفتح البابْ

          -9-
في ثقب الناي
حبسَ الشاعرُ نونَ الخوفِ، ونام
أشعلَ في الليلِ لفافة تبغٍ
واستأنسَ بالذئبِ
وقد جمعتْهُ الرؤيا
والموتى حُرّاسُ المقبرةِ السفليّةِ

هل أغفلَ وقتي
وسؤالي عن حكمتهِ
وأدارَ المذياعَ إلى لغةِ الخوفِ
ونامَ طويلاً
حتى انهارَ السقفُ الإسمنتيُّ على ولدٍ
كان يرتّبُ موعدهُ
مع أنثى الناي؟!!

          -10-
من أين يجيء الشعرُ؟!
قال: من الظلّ الساكنِ في الشمسِ
أحرّكهُ
فيخفّ
كما لو أنّ حصاناً أبدياً جاء من العدمِ

من أيّ مقام
تأتي الجملةُ تفردُ خصلتها؟!
قال: من السالبِ
والموجبِ
أرفعُ في النهدينِ حليباً أبيضَ
ثمّ أعالجه بدمٍ أحمرَ
حتى يرسمَ صورته دون إطارٍ
وأراقبهُ إذ ينفش في المعنى
ويقود خطايَ إلى غنمي

قلتُ: وإن غابت ذاكرة الجوهر  
في المبنى
هل يأتيك الشعرُ
بمرآةٍ حبلى؟!

          -11-
في أوّلِ منزلةٍ يتبنّى الشاعرُ خيمتها
حفرَ البئرَ الأولى
وأصابْ
في المرتبةِ الأخرى
مدّ الشاعرُ صورتهُ ليد المحراب
في الرحلةِ قبل ذهابِ الروحِ إلى بارئها
شجَّ الريحَ
وسيّفَ دمعتها
وأناب
لدمٍ فاضَ على صلصالِ الشكلِ
وغاب

          -12-
الشاعرُ لَمْ ينهِ كلامَهْ
خرجَ الجمهورُ من القاعةِ مزدحماً بدبابيس فتنْ
حرفان من الشعرِ يذودانِ عن الشاعرِ
حرقةَ أعصاب الوحدةِ
قال: إذن أنهي الصورةِ وحدي
حدْسٌ ما في المنهج والرؤيا
حدْسٌ ما
ونذيرُ كفن
وقبلَ يغادرُ، قال الشعرُ لهُ:
هذا أجمل ما قلتَ
ويكفي أنكَ ما زايدتَ على
أنثى بوطن

          -13-
اللقطةُ في فلسفةِ الشاعرِ
أنْ تقذف في الصورةِ رمزاً صوريّاً
وتغادر نفْسكْ
الصورةُ في فلسفةِ الشاعرِ
أن تختار دماً بحريَّ المجرى
وتغادرَ وحدكْ
والنصُّ الكاملُ في فلسفة الشاعرِ
أن تخلط في اللقطة والصورةِ
كلّ الألوانِ على جدرانِ اللوحةِ
ثمّ تغازلَ رسمكْ
والمتلقّي في فلسفة الشاعرِ
أنْ يتعلّمَ حدْسكْ

          -14-
كان يجلسُ فوق الحصانِ
يهذَّبُ رمحا
كان جزءاً من المهرجانِ
إذا طارَ قدّامهُ الأدعياءُ
يقدّمُ نُصْحا
وكان إذا خانهُ الأرجوانُ العتيقُ
يغادرُ لمْحا
ولكنّهُ بعد أن صار ديوانُهُ
قبلةَ الشعراءِ
أشاحَ الوشاح عن الصمتِ
حتى إذا جاءهُ الأولياءُ
أعاد ملامحَهُ
واختفى
ثمَّ عادَ  وشحّا

          -15-
في كلِّ مُدوَّنةٍ
ينهضُ بالأبيضِ صَبّارُ الشاعرِ
فالصورةُ في الأرضِ جهاتٌ أربعْ

المعنى يأخذُ ريشَ المعنى
وسرايا المفردةِ القيلولةِ
تفشي سرَّ نعاسي
وغبارُ السّردِ العابر للريح
يميلُ إلى ترميم زجاجي
والشكلُ فضاءٌ محمولٌ فوق
رياش المقطعْ
في كلّ مدوّنةٍ من أعطاف النخلةِ
تكويمُ النصِّ بباب البيتِ كلامٌ أبلغُ
من ترقيعِ الثوبِ
وأخلطُ فيهِ الذاتَ بِسُكَّرِها
وأقاربُ بينَ نعاسي
ونعاسِ القطط الأربعْ

لا شيء على مَهَلٍ
يمشي غير رصيفِ الغيمِ
وفيهِ مرايا تضبطُ شكلاً
في عين الشكلِ تحمحمُ
وأنا في كلِّ الأحوالِ أمزمزُ
شفة الموتِ، ولا أتسكّعْ 

          -16-
حركاتِ المُحدثِ واحدةٌ
فَعِلنٌ
     الفاعلُ مختبئٌ
والمفعولُ طليقْ
فَعِلنٌ
والفِعْلُ سماءٌ من حَذَرٍ تتلقّى نفْسي
والنّفْسُ إذا قُبضَتْ فَعْلُنْ وطريقْ
أشبعني الترميزُ
فزدتُ على الحركاتِ ثلاثةَ أسماءٍ
أولها المعنى
أوسطها المبنى
آخرها الإبريق

          -17-
تنقّل إصبعي
على وترٍ من الأوزانِ
على جبلٍ من الأحزانِ
على ترنيمة الإنسانِ
قلتُ لعلَّهُ يمضي
وينشغلُ

دحا نفْسَ القصيدةِ 
قال للأوزانِ: مُرِّي
وانثنى
وأتى على جبلٍ نحيلٍ
قال: ألقوني على أرضي
فإنّي الآنَ أكتملُ
أنا القرويُّ
والغزلانُ أولادي
وجاري الحُلْمُ
والأملُ

          -18-
ما نضبَ الداخلُ فيكَ
فأعلمني من أيِّ بحارٍ هذا اللؤلؤْ؟
حملَ الخارجَ
واندفعَ الكوثرُ في كأسِ محارتهِ
من هذا البؤبؤْ !!




إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x