أثر المرجعيات في قراءة الواقع

أثر المرجعيات في قراءة الواقع




   ربما يحق للإنسان العربي، بعد العصف الذهني الذي بدا واضحاً في مساجلات الطبقة المثقفة في أثناء العدوان الإرهابي على أهلنا في غزة، أن يفتح ذراعيه، ويستنشق الهواء الحر، ويفتخر بانتسابه إلى الأرض التي قدّمت آلاف الشهداء، دفاعاً عن الأمة وضميرها.
   الإنسان العربي، بمختلف مكوناته الفكرية، بدا أيضاً واضحاً، لا لبس في قراءته الواقع، غير أنّ ما يلفت النظر تلك المرجعيات التي انطلق منها، وأجزم أنها تصبّ جميعها في خندق الدفاع عن الأرض وحرية الإنسان وكرامته. لكن، المعطى الذي يقف حائلاً دون الاستمرار بهذا المديح يكمن في تضارب بعض هذه المرجعيات مع النتائج، إذ سرعان ما تتكشف أبجدية المرجعية، تحت غطاء ترى ما خلفه من انزلاقات، فليس معقولاً أنْ تستند المرجعية على رأي يسوقه بعض الإعلام المغرض، أو الإعلام المأجور، فتصبح المرجعية نسلاً يتناسل من رأي قابل للخطأ، أو للصواب.
   إلى هذا الحد، ربما نجد مبرراً، أو مسوّغاً، لتقابل المرجعية مع الرأي، ولكن، أن يصبح هذا التقابل قنبلة موقوتة، فهذا ما ترفضه كلّ قوانين الحرية التي يقع مسارها بين تمحورات الذات وتحولاتها، فليس كلّ ما يعلق بالمرجعية هو أصل العقل ومحور تأملاته، كما ليس كلّ رأي أصلاً للانفتاح على تتبع مثل هذه المرجعيات.
   أنْ تدافع عن حقيقة واقعة تراها العين، لا تشير بالضرورة إلى امتلاكك المرجعية كبنية تنطلق منها، لأن الأصل في الامتلاك أن تدافع عن مفرداتها، وليس عن فعلها، كما ليس بالضرورة أن تتبنى رأياً هو أنّك تشكل لهُ فضاءً، ربما يتعارض مع الواقع نفسه.
   أصحاب المرجعيات هم الذين ركنوا العقل جانباً، هذا العقل الذي طالما مجّدوه، وهم يقاومون التراث والتاريخ العريق لهذه الأمة، ولم يتركوا له فسحة للتأمّل، أو قراءة الواقع كما ينبغي، للخروج من مأزق التبعية المرجعية التي جثت على أقلامهم، ودفعتهم إلى مصادرة حقّ الآخرين بالتعبير عن آرائهم، بحجّة أنها تتلاقى مع مرجعيات تختلف وتوجهاتهم.
   لقد تشوّه الفعل، بسبب ضباب الرؤية، فكيف لشخص ما أن يمجّد فعلاً، ثمّ يبني عليه واقعاً تريده مرجعيته، كيف يجيز لنفسه التصفيق لفعلٍ، كما حدث في غزة، ثمّ يحارب فاعله، بشتى أنواع الأسلحة التي تخضع لعقلية المرجعية التي يتبناها، أليس هذا بعيداً عن منطق العقل الذي يصفونه بالمخلّص، كيف لي أنْ أصدّق مرجعيةً، تصفق لفعل وتلغي الفاعل، أليس هذا أيضاً مدعاة للشك بأن هؤلاء يبحثون عن قطف الثمار التي زرع بذرتها غيرهم، وقد تناسوا أنّ الشعوب ترى وتتابع وتحفظ.
   غريب أمر هذه المرجعيات التي تصطف مع الغبار، ثمّ تبحث لها عن كوّة في الطريق، بعد جلاء الغبار، غريب أمرها، وهي تدسّ أنفها في كينونة الفعل، بعد اعتلائه منصة النهاية، غريب أمرها، وهي تحاول أنْ تفرّق بين الفعل وفاعله، القاعدة التي لا يرى ضلعها الأول "الفعل"، من دون وضوح صورة الضلع الآخر "الفاعل". هل عجزت مثل هذه المرجعيات عن قراءة هذه القاعدة، أم أنها تحاول جاهدةً أن تغير المعادلة التي يحفظها الإنسان عن ظهر قلب. 


المقال السابق
المقال التالي

كُتب بواسطة:

0 Comments: