لوثة الانحطاط / الفجوة بين المبدع والجمهور / أحمد الخطيب


 ربما تُنشئْ إشكالية الحديث عن الفجوة بين المبدع والجمهور معركة لا يُحمد عقباها بين أصحاب الاختصاص، ذلك لأن الحديث عن تشرذمات الواقع يجرّ إلى فوضى في ضبط الوعي والمصطلح والاتجاهات، فما من أحد إلا ويتمسك بثالوثيه المقدّس.
فالوعي مقصور في كثير من أعراف الذين يتعاطون رسالة الأدب على الرسالة التي يرجّحونها على كلّ شيء، فيما يتصل المصطلح على إيقاعات ما تعلّمه من الكتب، لا زيادة فيه ولا نقصان، أما الاتجاهات فهي لا ترتكز على شيء، إلا على أن المتعاطي الذي يرى ما لا يراه الآخرون كما يظن ويعتقد.
من هنا، وفي خضم ما تشهده الساحات الأدبية العربية من تخبّط، وفي مدى ما تقتصر عليه تلك المداولات والأحكام الطارئة على بنية العقل العربي في التعامل مع الأمور المستحدثة، وفي سياق ما يخرج علينا من انقباضات في فعل التجديد على كافة المستويات، فسوف أحاول أن أضع ما أراه على طاولة البحث، ولا أدّعي صوابه المطلق، فلا مطلق في الفعل البشري.
أن يتجه الإنسان إلى حدوس جديدة، مناطاً بها حمولة ما ورِثَهُ من تحوّلات عقل رؤيوي، ومنذ وعيه الأول على أبجدية الحياة، ذلك يعني أنه لا يجاور أقرانَهُ بالوعي، فهو يعي إذن مسيرة الأشياء، وانتقالها من حالٍ إلى حال، وهو يعي أنّ المكونات الفعلية للحياة متحركة وليست ثابتة، كذلك يعي أن القياس على الأشياء غير دقيق، بهذا هو يجازف بالاختلاف نظرية وتطبيقاً، وهو بذلك أيضاً لا يرى الأشياء على صورتها الفانية، لهذا يجهد للحصول على تشكّلات جديدة لكل ما يمرّ بهِ، متحركاً كان أو ساكناً، فيبدأ من حيث ينتهي أقرانهُ، فإذا ما انتهى أقرانه حال رؤيتهم لغيمة عابرة إلى أنّ السماء لن تمطر، فهو يرى أن السماء معبّأةً بمدارج الغيمة التي تركت أبناءها خلفها، وأن الأرض ما زال فيها بقايا من ماء، وأن الإنسان ما زال يحتفظ في بئره الداخلية على بقايا أوكسجين رعوي.
هو يجازف بالاختلاف نظرية وتطبيقاً، وهو بذلك أيضاً لا يرى الأشياء على صورتها الفانية، لهذا يجهد للحصول على تشكّلات جديدة لكل ما يمرّ بهِ
أما إذا نظرنا إلى المصطلح، فإما هو كامن تراثياً، أو مستحدثٌ، وكلاهما عالق بالذهنية القرائية، وهي ذهنية تصالحية وليس ذهنية تفاعلية، أو ذهنية قابلة للامتصاص والتشكّل، وهي أبعد مساراً من " التلقين" الذي رافقنا منذ نعومة الأظافر إلى منازل الخمول، فلا تستطيع مجاراة الذهنية التراثية، لأنك ربما تذهب إلى أمور لا يحمد مآلها، كما أنك لا تستطيع مجاراة الذهنية المستحدثة، لأنك ستتهم بقلة الثقافة وعدم الاطّلاع، وأنت بين هذين البحرين تقف عاجزاً أمام هذا الانحدار الهائل في التماس الحقائق.
وإذا كان الإبداع مناطَ رؤى إنسانية غير مقيّدة، فلا ضير أن تختلف الاتجاهات اختلافاً واسعاً، بعيداً عن التشنّجات، وكيل التُّهم، ونعت الآخر بالانكفاء على حصيلته من الاختلاف، فالاتجاهات هي في المحصلة النهائية تابعة للفعل، وعلى المستوى الإبداعي هي حالة مسبوقة بالمرجعيات التي يترصّدها المبدع.
من هذا المنظور الذي لا أجزم عليه، ولا أقبض الأصابع ليتشكّل كمثرى بين يديّ، مع الاعتراف بأن لي فيه جانب إيماني كبير، فإن الخلط الذي أحدثه المتعاطون في حقل الأدب قد أحدث هوة وفجوة بينهم وبين الجمهور، فأصبح المتعاطي يغرد في واد والجمهور في واد آخر، فسعى المتعاطي إلى تشكيل شبكات اجتماعية ذات صبغة مجاملة إلى أبعد حد، مثل منح الألقاب الكبيرة لكل من خطى خطوة واحدة أو ربما لم يخطو، وبدأت شهادات التقدير تفرد جناحيها بعد كل أمسية أو مهرجان، وبدأت الهيئات الثقافية تتكاثر وتتناسل، وبدأ الدخلاء يجدون موطئ قدم لهم، خاصة بعد أن انكفأ المبدع الحقيقي إلى ظلال شجرة البيت، كما ساهمت مواقع التواصل الاجتماعي بهذا الانحطاط العقيم في مسالك الصعب سلمه، دون رقيب أو حسيب.

إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x