رعاة الأمسيات والاستقواء على حديقة المبدع





   ما الذي يراه الشاعر في ملامح أمّه، وهو يستدرجها لتضيف من آيات الجمال أيقونة أخرى لفضاء الجمال الذي اختاره باللون والريشة في أمسية تقام تحت جناحها، وما الذي يسعى إليه مبدع آخر، وهو يستهدي بمنبع الحياة التي وقف على عينها ذات قلق، فيلجأ إلى مبدع آخر ليكون منارتهُ في توقيع كتاب له، وما الذي يحدو بمبدع يشقّ طريقهُ إلى أعالي الأشجار، ليختار مثقفاً يستطيع مجاراة المفردات وهي تسعى بين يدي النص، ليشاركه الاحتفاء بالدرجة الأولى من سلّم المواجهة من الجمهور، ربما يلتفت قارئ ما  إلى مسرى هذه الأسئلة، فيبصر، وربما يعتري آخر تشخيص خاطئ، فيظنّ أنني ألقي بها جزافاً على بياض ورقة، وربما يسارع آخرون إلى تمييل العقال على الرأس، ظنّا منهم أنني أسوقها لأكشف عورة ما يفعلون ولا يدركون.
   الأسئلة البارزة، آنفة الذكر، كعناوين رئيسية لمؤتمر ما، ليس مردّها حالة هنا وحالة هناك، بل لأنها أصبحت تشكل ظاهرة، وجب الوقوف عليها، لقراءة أبعادها، وسبر أغوارها، وتجنّب أسوارها، كلّ ذلك، لا لشيء، إنما لأن الظاهرة أصبحت تثير قلق العابرين إلى باحات الجهة العليا من التأمّل في واحات الأدب وأهله.
   في الأمسيات التي خرجت عن سياق متن الأسئلة، آنفة الذكر، من قبل هيئات ثقافية لا شأن لها بالفعل الثقافي ومرتكزاته وهويته التي تأبى أن تخضع لأمزجة عابرة، لَم أجد واحدة منها، تسعى إلى تأصيل فكرة الرعاية التي ينتدبها الكثير من هذه الهيئات في أيامنا هذه، فهي وإنْ أقرّت فعل الانتداب والرعاية، وعملت على تحصينه، إلا أنها تجاهلت حصن المفردات بالذهاب إلى من ليس يقفو من الأثر علماً بمادة الرعاية، سوى الأخذ بعين الكاميرا، والانتباه إلى أدقّ تفاصيل الحالة النفسية التي يعيشها الراعي وشركاؤه.
   الشاعر الذي استدرج والدته، لتكون العَلَم الأبهى في حفل افتتاح إشهار ديوانه، كان متأكداً من متانة الحبل السّري الذي يربط بين الفعل المنتج ومنبعه، والمبدع الذي استهدى بنبع الحياة، كان حريصاً على فتح أوعية الدم بينه وبين من سبقوه بالتجربة، والمبدع الذي اختار مثقفاً، كان متأكداً من حضور السلّة المعرفية التي ستقدِّم له سُبُل الانطلاق إلى ما وراء اللحظة، ولكن ما الذي تضيفه الهيئات الثقافية حينما تنطلق إلى أشخاص يتمتعون بالقدر الوافي من كاريزما " الأنا"، وتجعلهم أئمّة، تصوَّبُ حولَهم المآقي، ما الذي سيضيفونه لهيبة الكائن الذي لا يجاور في صومعته إلا من كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد، وما الذي يضيفونه للمبدع الذي يشقى بالولادة الإبداعية شقاء أيوب وصبره، وهم يطيحون به بعد الانتهاء من أمسيته أو معرضه أو ندوته عرض الحائط، وكأنّه فتقٌ في ثوب الأمسية يحتاج إلى راتق من نوع خاص.
   كلُّ ذلك ما كان ليكون خيطاً للحائك، لولا ذلك الألم الممض الذي يعاني منه المبدع بعد كلّ تظاهرة للرعاية، إذ يرى بعض المبدعين الذين وقعوا في فخّ رعاية الكاريزما، أن الأضواء التي سرّحها المنظمون تجاه الراعي، شكلت صدمة لهم، إذ كيف يُحتفى بالعابر، ولا يقام شأناً للمتجذر في أصلاب الحياة والخلود، وكأنّ للمسلة حادٍ واحد، تُرى الأشياء بصفاتها القابضة على الأثر من خلال ثقبها الذي توسِّعهُ منجزات ما بعد الأمسية.
   الرعاية، وإن كنت أجزم أنها دخيلة على الوسط الإبداعي، إلا أنّها تمددت وأصبحت كارثية، بالنسبة، " للمبدعين"،  في ظلّ غياب القطاع الرسمي عن تبنّي هذا الكَم الهائل من الأمسيات والندوات التي تقام وفق الفزعة العشائرية، الفزعة التي تذهب بعد كلّ جولة من المصائب إلى الطاولة لاحتساء القهوة " السّادة"، بعد التهام كمية من اللحم المقدّد على حطب الموت السريري للجمال، وإن كنا نعتقد أنها ربما تشكل طمأنينة من نوع ما للمنظمين الذين صاروا زبداً في الأرض، إلا أن لها ما بعدها من متون غير صالحة للإيقاع الموسيقي الذي تُبنى عليه مادة الإصغاء للجمال، يقول أحد روّاد الأمسيات، أنه لاحظ خروج بعض المبدعين من القاعة، بعد الانتهاء من قراءاتهم، ولَم يكترث بهم أحد من المنظمين الذين كانوا يلتقطون الصور مع الراعي، ويضيف، تألمت لذلك، فخرجت أسعى خلفهم، وحينما سألتهم عن سبب المغادرة، قال أحدهم، لا نريد أن نضع جبّتنا على هامش الكاميرا التي لن يركز صاحبها على حواسنا وحدوسنا، ويزيد، لذلك آثرنا الخروج، خوفاً من أن نبدو في الصورة كطحالب.   
   يقول أحد المنظمين لجملة من الأمسيات، أن البحث عن رعاية مادية ليس مقصوراً على استجلاب المال، بل ننظر أيضاً لموقع الراعي، وعمله الخيري، وماذا يقدم للوطن من أفعال تشي بانتمائه للفعل الثقافي، إذا كان ذلك كذلك يرد آخر، فلماذا تُسلط الأضواء على أشخاص بعينهم، لماذا يعاملون وكأنهم هم ماكينة الفعل الثقافي، ومحرك دولابها، وصاحب مسمّياتها، لماذا يتدخلون في برامج الأمسيات، يضيفون من يشاؤون، ويشطبون من يشاؤون، لماذا يقبلون أن تكون الكلمة الأولى لهم، إذا كان ما يفعلوه نتاج ثورة تأملية لخدمة المثقف والوقوف بجانب الحصن الأخير للأمة، ويزيد آخر، لماذا تلتقط الصور لهذا الراعي أو ذاك، وهو يتوسّط الجمع، فيما تتغشى ظلمة الجوانب والظلال "المبدع" الذي احترق وهو يسعى إلى تأثيث الحياة بالجمال، فيما يذهب آخر إلى أبعد من ذلك، إذ يؤكد بأن الرعاية، وهنا يقول " أقصد رعاية الافتتاح، وليس الرعاية التي تُقدّم للمنتج الإبداعي"، لا تستقيم في ميدان توجهاتها ونقاوة سرّها إلا إذا كانت تتشابك مع المجرى الإبداعي الصافي، بمعنى، أن يتقدم  الجمالي على المادي، أن يكون فارس الأضواء من تقام له الكلمات على أسرّتها، لا أن تصبح الرعاية منشأ تساقط الرُّطب على الموائد.
   اختلفت التوجهات، وتكدّست أصول الأفعال في علبة التمارين التي تجريها هيئاتنا الثقافية التي تمتد على مساحة الوطن، وتراجع الفعل الحقيقي النابض الذي شيّدَ بنيان هويتنا الثقافية، وخلا المكان من سكّانه الفعليين، وابتعد الجمهور الحقيقي الراصد للجمال، وحلّ مكانهما المطبلون والمصفقون، وتراجعت الأم وجناحها وهي تتأسى على الحبل السري الذي يختنق مع كل ولادة غير طبيعية، وغاب أولي البصيرة من النقاد والأكاديميين واعتكفوا في صومعتهم، خوفاً من أن تتلوّث الذائقة من العطب الكبير الذي أصاب بنية اللسان العربي في المحيط الثقافي كما يقول أحدهم، المحيط الذي أصبح جناحه اللغوي مكسوراً، وفضاؤه ضيّقاً، ولا يطير إلا بتلويح عار من رياش الحقيقة، من هنا وهناك، مزروع في الصفوف الخلفية في قاعات الأمسيات.
   اختلفت التوجهات، وتكاثرت الأمسيات، وهبّ الرعاة من نومهم، فاستيقظوا على حانة ثقافية فارغة، مديدها أشخاص لا رابط لهم مع الثقافة والفعل الثقافي، سوى ورقة بيضاء حبّرتها تواقيع سبعة أشخاص، فصارت لهم ضامناً لفعل ما يريدون،  يضخمون شخصاً، ويستضيفون آخر، ويمنحون طبقتهم  "زرافات وفرادى" ألقاباً، لَم يحمل نياشينها  المتنبي شاعر العربية الأكبر، فصاروا أسياد المشهد الثقافي المتردّي، أسياداً بمقبض وهَمٍ يرى مثالبه صقر الحقيقة، وهَمٍ، لا يستطيع فنان أن يلتقط له من الألوان ما يفسّر طبيعته، بالمقابل أصبح مبدع الرسالة الجمالية وصاحبها، يدخل إلى بهو القاعات المغلقة، غريب ديار، وعابر سبيل لن يلتفت إلى هالته الكونية أحد.
   لا ينظر أحدكم بعين الريبة لهذه المساحة التي أفردها، ويتخذ منها منزلقاً لتفعيل بوابة الحياكة التي لم أذهب إلى خيوطها، فأنا هنا أفصّل ثوب ظاهرة صارت مثار جدل، إذ اتّسع الفتق على الراتق في بيئتنا الثقافية التي أصبحت تجازف بكلّ شيء، حتى بالأحوال والمقامات التي ارتقى إليها المبدع ذات سِنة من الناس، وفي سلّته ما يفي بالغرض إذ يقول: " مجانين هؤلاء الناس الذي يتخذون المال هدفاً، والشهرة غاية، والطمع خلقاً، والغرور مركباً".
   تلك هي مرارة الظاهرة، وحصاها التي أقلقت خاصرة الأرض قبل الإنسان، المرارة التي تحتاج إلى نطاسي بارع، يدخل منظارهُ إلى كينونتها، ويستلّها من نسيجها الورمي، أو أن يعمل مبضعه في لحمها، قبل أن تستفحل في باقي الجسد الذي تداعت عليه الأورام الخبيثة.


إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x