هل كنتُ حالِماً ومُتخيِّلاً


قدمت في جامعة اليرموك، ضمن شهادات إبداعية، تنظيم كرسي عرار للدراسات الأدبية والثقافية 


   في البيتِ حيثُ يُمارسُ الفتى الركضَ وراءَ الواجباتِ اليوميةِ بعد نهارٍ مُلفّعٍ بتلقّي المعلوماتِ السريعةِ التي يشرحُها المعلمونَ في مدارسِ الوكالة، يرى غايةً أخرى لأخيهِ الذي يكبُرُهُ بعامين، وهو ينزوي في خَلوتهِ مُنهمِكاً، ليكتبَ شيئاً غيرَ  الواجباتِ اليوميةِ، سألَهُ الفتى عن ذلك، قال إنهُ الشعر، إذن الشعرُ في متناولِ الناس، هكذا خُيِّلَ لهُ، كان هذا أولَ لقاءٍ لهُ مع هذا العالَمِ الذي ظنّهُ حِكراً على الشعراءِ الذين يَقرأُ لهم في كتاب النصوص، ولكنهُ لم يتخذْ من هذه الحالةِ مَقرّاً لتفكيرهِ، ولم يستندْ إلى فضائها السحري فيما بعد، إلى أن كتبَ موضوعاً إنشائياً أثنى عليه أُستاذُ اللغةِ العربيةِ في المراحل الإعدادية الأولى، وكان هذا أمراً غيرَ مستغربٍ، فكثيرون هم من يُجيدونَ ذلك، ولكنْ أنْ  يقفَ الأُستاذُ على قولٍ شعري في الموضوع لفتى لم يقرأْ غيرَ النصوصِ الشعريةِ في الكتب المدرسية، فهذا مؤشرٌ على حالةٍ ربما ستدفعُهُ إلى عوالِم القلق، والشكِّ في الصور التي تمرُّ في مخيلتهِ، ويراها كما يراها الناسُ، أو تتقاطعُ معَها في الواقع، تلك هي اللحظةُ الأولى التي اختلسَها الفتى من ثناءِ أُستاذهِ على هذا التسللِ الشعري بين سطور الإنشاء، وزادها طمأنينةً اصطحابُهُ إلى مكتبة المدرسة، ليقفَ على أولِ ديوان شعر بعنوان " قافلةُ الليل المحروق" للشاعر مُحمد ضمرة، الديوانُ الذي قَدَحَ في مخيلة الفتى شرارةَ التمسُّكِ بهذا الزائر الذي جاء على استحياءٍ، فَمَنْ هو  ليجلسَ في حضرة المتنبي وغيرهِ من الشعراء الذين كان يتخيّلُ أنهم من عالمٍ آخر، يَرَونَ ما لا يُرى، ويتكلمون بلسانٍ غيرِ لسانِهِ، بغيرِ ما في طاقةِ الأنفس من قدرةٍ على الكشف، فيما يعلَمُهُ فتى ما زال في غَضارةِ الصِّبا.
   من هذه المداهمةِ التي فرضتْ نفسَها على الفتى، بدأَ الشعرُ يَنبُِتُ غَضًّا، حالِماً مُتخيِّلاً، ولكن هيهاتَ، فما في مَخزونهِ إلا القليلُ من المفرداتِ التي حاولَ معها العروجَ إلى صفحات ديوان " قافلةُ الليل المحروق"، أو  ما يكتبُهُ أخوهُ الأكبرُ في دفترهِ، أو استدراجَ القولِ الشعري الذي أشارَ لهُ الأستاذُ والإفاضةَ فيه، فجاءت القصائدُ الأولى وكأنّها ظلالٌ لِما يَقرأ، أو كأنها هيَ مع تحويرٍ مفضوحٍ لا يسترُهُ غيرُ تلك الجملِ التي تشي بولادة شاعر.
   بعد أنْ استقرَّ في مخيلةِ الفتى هوسُ الشعر ودورانُهُ، أصبحت مكتبةُ المدرسةِ ومكتبةُ بلدية إربد الكبرى ملاذَهُ الجديدَ، بعيداً عن المدرسةِ وضجيج الطلبة، والحارةِ وألعابِها، فبدأَتْ القراءةُ تتجهُ إلى بطونِ الكتبِ التي يعيش فيها الشعراءُ الأوائلُ، حتى جاءت الصدمةُ الأولى، وضغط الفتى على الزنادِ الذي أطلقَ رَصاصتَهُ من بندقية الحياءِ التي أصابَتْهُ حين فَضَحَ صديقُهُ إعجابَهُ بفتاةٍ من الحي، ولم يُنْقِذْهُ من هذا الحياءِ سِوى ذلك الهوسُ الشعري، حين قال ناظِراَ إلى حروفِ اسمِها الذي يَسترُهُ الآن حياءً غيرَ ذاك الحَياء::
سينٌ على قلبي تلوحُ كما أرى
ميمٌ وفي تصويرها إعفاءُ
ما بين حرفين التقتْ أحلامُنا
فتهيّأتْ لحبيبِها السمراءُ
   فتساءلَ الفتى، هل هذا هو الشعر، أم هيَ لحظةٌ عابرةٌ سطَّرتَها يدُ الحياءِ، لم يدمْ طويلاً هذا التساؤلُ، حين مات صديقٌ لهُ بحادثِ سير، كانا يرسُمانِ معاً على كراسِ حياتِهما أحلامَهما المشتركةَ، لتثورَ نفْسُهُ بمقطوعةٍ أخرى، افترقتْ عن الأولى شكلاً وصياغةً، حين قال:
" حربٌ صديقي
كنا نكتبُ الشعرَ معا
نحلُمُ بالرقص البلدي معا
مات حرب
كنتُ أحلُمُ أن نموتَ معاً"
   وما بين ثَوَرانِ النفْسِ بالشعر حياءً وحزناً، تخلّى الفتى عن الظلالِ وعن التحوير،  وفارقَ ديوانَ قافلةِ الليل المحروق ودفترَ أخيهِ، ليجِدَ نفسَهُ أمامَ تشعُّباتٍ من الصورِ التي لم تكن في ذاكرته، أو لمْ يكنْ يُصغي إليها، أو يُلقي لها بالاً قبلَ انغماسِهِ بالهوس المستجدِّ على حياتهِ، فصار رفيقَ دفترِهِ ومخيلَتِهِ، ورفيقَ أزقةِ المخيم وطينِها وطوابيرِ أهلهِ أمام وكالة الغوث والحنفياتِ المشتركة ومِنْجَمِ التل الذي كان يدفعُ لأهل اللجوءِ بترابهِ من أجل إضافةِ غرفٍ طينيةٍ جديدةٍ إلى غرفةِ الوكالة،  حشودٌ من المؤثراتِ الشعرية التي اتخذتْ على عاتقها مفارقةَ الهوس الأول، لِيُصغي الفتى إلى صوتهِ الداخلي المرتبطِ مع هموم الناس، وما ينطوي عليه المخيمُ من خرائطَ على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
" لَمْ ينطو التلُّ يوماً
على لؤلؤٍ نام في صحن هذا الفَلَكْ
فاهدئي يا بيوتَ التنكْ
البيوتُ العليَّةُ طينٌ
ومنفى
فهل ينتمي للكتابةِ طفلٌ سَقى نفْسَهُ
من عُيون الضَّنكْ".
   لم تكن هذه المحاولاتُ تُشكِّلُ مُنطلقاً للوصول إلى بيئةٍ شعريةٍ قارّةٍ في مُخيلةِ الفتى، لهذا هدأَ واختلى بكتبهِ المدرسية، إذ شكّلتْ المرحلةُ الأخيرةُ من الإيقاعاتِ الدراسيةِ نقطةَ تجاذبٍ أُسري، فها هو الفتى على أعتاب الحصولِ على شَهادة الثانوية العامة، غيرَ أنّ حدثاً مدرسياً أعاد له هوسَهُ الأولَ بالشعر، حين قرأ إعلاناً مدرسياً للمشاركة في الاحتفالات التي ستقيمُها المدرسةُ بمناسبة عيد المعلم، فما كان منهُ إلا أن اختلى بهوسهِ من جديدٍ ليصوغَ ثلاثينَ بيتاً من الشعر بهذه المناسبة على وزن الكاملِ، وكأنها إشارةٌ للكمالِ الأول الذي ينشدُهُ كلُّ من يضعُ قدَمَهُ على هذا الطريق الصعب، غيرَ أن معلمَ اللغة العربية، المشرفَ على الاحتفاليةِ لم يُصغِ للهوسِ الشعري القادم من أعماقهِ حين رفض مشاركتَهُ وحجّتُهُ أنَّ ما خطّهُ الفتى ليس شعراً لوقوعهِ ببعض الأخطاء، مما شكّل لهُ صدمةً كادت تَقضي على هوسِ ستِ سنواتٍ، ظنّ فيها أنهُ سَيُصْبِحُ من جُلساء المتنبي، فأرسلَ قصيدتَهُ إلى البرنامج الإذاعي الشهير آنذاك" أقلامٌ واعدة" الذي تعاقَبَ على تقديمه نخبةٌ من المبدعين، لِتُذاعَ القصيدةُ مع بعض الملحوظات، فيما شكّل الرأيُ الأخيرُ حولَها جائزةً كبرى للفتى حين قال مقدِّمُ البرنامَج: خلفَ هذه القصيدةِ شاعرٌ قادمٌ بقوةْ.
قِفْ للمعلّمِ، إنَّ بعضَ دروسهِ     وقْفٌ على المعنى الذي أرساهُ
وقْفٌ تمايلَ للصعودِ إلى الذُّرى       إذْ بايعَ الخُلُقَ الذي يرضاهُ
قفْ للمعلِّمِ، نحنُ جئنا بالنشيدِ  مُصافحينَ  على العمومِ خُطاهُ  
   هل استوتْ قصيدتُهُ على المأمول إذنْ بعد قولِ مُقدِّم البرنامَج، وهل صعدتْ على ذاتِ ألواحٍ ودُسُر، أظنُّ ذلك، ولكن الفتى الذي غادر إلى يوغسلافيا لدراسة الطب، مُفارقاً هوسَهُ، أصبحَ أكثرَ تأمُّلاً، وأكثرَ جديَّةً، وأكثرَ تعلُّقاً بالمعاني التي تطرحُها الغربةُ، أصبحَ حالِماً ومُتخيِّلاً مع ارتدادِهِ إلى أزقة الطينِ بين الفَيْنَةِ والأخرى، أصبحَ مُطلا على حيواتٍ أخرى يحرُسها الدانوبُ، وأصبحَ قابَ قوسين أو أدنى من الصعود إلى أعلى الشجرة، اجتاحَتْهُ حُمّى الشعر التي أصبحتْ تُزاحِمُ الطبّ، فكتبَ العديدَ من القصائد التي نُشرتْ في الأردن وسوريا ولبنان وفلسطين والكويت وغيرِها من الدول العربية، لِتُشَكِّلَ هذه الفترةُ مرحلةَ الاستواءِ الأول للخصوصية التي ينشُدُها الفتى بعيداً عن أحلام الهوسِ الأولِ، خاصةً بعد أن التقى بالشاعرة اليوغسلافية فيسنا بارون التي أشارت عليه بضَرورة مراوغة المعاني واللجوء إلى أرواحِها، وعدم الاكتفاء بالقِشْرة الزائلةِ للفاكهةِ التي تُرمى في سلّة المهملات، ممّا حدا بالفتى الرجوعَ للقصائد المنشورة، وإعادةِ ترميمِها والبناءِ عليها، وتبويبِها في مجموعةٍ شعريةٍ أولى بعنوان:" أصابعٌ ضالعةٌ في الانتشار" صدرتْ عن دار الفارابي في بيروت سنةَ ألفٍ وتُسعمائةٍ وخمسةٍ وثمانين، فلا نصَّ دون مشاكسةٍ، ولا  معنى دون مراوغةٍ، ولا موسيقى دون الإنصات إلى عصافير المخيّلةِ، هكذا قالت بارون، وهكذا صار الفتى شاعراً.
   وأخيراً من الصُعوبةِ بمكان أن يُلَملِمَ هذا الفتى كلَّ مفرداتِ تجربتهِ، وأن يفتحَ كرّاسَ أربعينَ عاماً، بدأتْ بأصابعَ ضالعةٍ في الانتشار، واستقرّتْ على اثنين وعشرينَ ديواناً، كان آخرُها " قميصُ الأثر"  الذي صدرَ العامَ الفائتَ.في الأردن.


إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x