شاعر يحنّ لمبضعه جسد اللغة


 شاعرٌ يمارسُ مع نصه قسوةً غيرَ عاديةٍ، قسوةً يُرى تحت سياطها أنينُ المفردات وهيَ تقطرُ من سُلالتِها اللُّغوية راضيةً مرضيّةً، هو هكذا، يذهبُ مع نصّه شاعراً ومُعلّماً ، أرأيتم شاعراً يعلِّمُ نصَّهُ كيف يتواصلُ مع نفسِه، ليكونَ نصاً قائماً بذاته، شاعراً يذهبُ مع التشكيل إلى صورة زمنيةٍ لا تَفنى.

هو هكذا، مهند ساري، تنشقُّ المعاني تحتَ مِبرَدهِ، فيُلقيها على الطرقات، يؤسس دهشتَها من جديد، لتخضعَ لهُ وهيَ ذاهبةٌ إلى قاموسه الشعري، الذي يأتي على مَهَلٍ من إيقاعات سماويّةٍ قارَّة في قدرتهِ على ضبط هندسةٍ غيرَ خاضعةٍ للالتقاط المادي للبناء القائم الذي يسترجِعُه الآخرون، إنّما هيَ كُلٌّ في ترقّبهِ لولادةِ أبنيةٍ تخضعُ لهُ في المقام الأول.
هو هكذا، يختزلُ عوالمَ متعددة في عالم اسمُه النص القائم بذاته كما أسلفت، لا يمكن لقارئه أن يستقطعَهُ نصوصاً معبّأةً بذواتها، فلكلّ نص ذات مطمئنة على أسرارها وأسرابها.
هو هكذا، يحنّ لِمِبضعه جسدُ اللغة، فيداري جراحَهُ التي تفشّىت فيها بلادة القاموس، يُعلّقُ خيطَ ذاكرتهِ على هرم الرؤيا، ويصولُ معها على كلّ حيٍّ من حيوات النسيج، ليرتقَ ما يشاءُ من ثقوب فُتِقتْ بسبب الإغواء، إغواءِ الصور التي تبلّدت في ذهنية اللغة القارّة في مدونة الشعر.
هو هكذا، وله حدائقُهُ التي يجري من تحتها سطرُ الشعر الخالد، ابنُ بيئته وماضيه، يصنع من تعاليمِ الحياة كنوزاً باهرةَ الأشكال، لواقع يمرّ عليه وحياً على ذات ألواحٍ ودُسُر، فيمضي مُلمّاً بالعلامة، ويحتفي بالنص إذ يستوي معهُ على عوده، ليّناً، سهلاً، ومحلّقاً.
هو هكذا
 تتأتى لهُ في كتاباته الإبداعية حالةُ تخطّي الزمن، ألم يُنْجَزِ الشعرُ والإبداعُ عموماً، ليكونَ عابراً لجسر الحياة، فارداً أجنحتَهُ وقيَمَهُ الفنيةَ العالية، ليستظلَّ بما تختصرُهُ الأزمان من إشعاعات قارّة في وجدان الأمم، هذه القيم التي لا يقفُ خلف إنشائها إلا من استطاع أنْ يحفرَ بعيداً في الأرضِ البكر، تتأتى لهُ، وهو يمضي إلى أثرِ السُّلالة وجيناتِها، يستصلحُ منها ما يشاءُ من عيونٍ تجري إلى مُستقرٍ لها، ومع هذا لا يكتفي برؤية استصلاح المتون، بل يغدو كاشفاً وعارفاً بمآلها في أبنيةٍ خاصة، يمارسُ معها خاصّيّة الإطلاق لرصد التجارب الإنسانية، ومدارُ هذا الإطلاق، اللغة، التي تقفُ موقفَ المُريد في حضرة شاعرها.
هو هكذا
 يعيشُ مغامرتَهُ مع اللغة، يستنبتُها استنباتاً بعد أن يخوضَ معهَا معركتَه النصيّةَ الخاصة، فلكلّ نصٍّ معركتُه الخاصة مع اللغة، يُرقرقُ مفرداتِها، يصولُ في دوائرِهِ المنطوقةِ والمهموسةِ من أجلِ الوصولِ إلى معينِها الذي يشفْ، تراهُ يحتفي أحياناً بمفردة خشِنةٍ، فيُؤنْسِنُها، يمارسُ معها صفاءه الوقّاد، يُدخلُها في تقلّباتِ بِنْيَتهِ، يُدرّبُها، ويقرِّبُها، ولا أقولُ يُدجِّنُها، لأنهُ يعي أن تدجين المفردة لتشاركَ جيرانَها لعبةَ الإصغاءِ إلى المتون، هي مرحلةٌ مؤقّتة، وما الشعر إلا مقامٌ طافحٌ بالأبدية.
هو هكذا
يُصغي إلى نفسهِ في اللغة، ويصغي إلى نفسه في صورهِ المفردة والمركبة، ويصغي إلى نفسه في أحوال المعاني وتأويلاتِها، ويُصغي إلى نفسه في بناء حدائقهِ، ويُصغي إلى نفسهِ حين يُولَدُ النص، وحين تتكاملُ النصوص، لهذا تراهُ يُصغي إلى أنسجة النص الداخلية بوعي شديد، فيرتُقُ ما تزاوِلُهُ هذه الأنسجة من تقاطعات، ويفتُقُ كلّ ما من شأنِه أن يحجب أوكسجين الشعر.
هو هكذا
يا الله
هل هذا وحيٌّ..؟!
أعلمُ أنَّ الوحيَ انقطعَ، ولكنْ
من أينَ يجيءُ مهند بالشعرِ الصافي
إنْ لم يكُنِ الوحيُ رفيقاً
في ما أملاه؟!!!...


إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x