كرسي عرار : البحث عن النص الغائب





   عرار الشاعر المُخْتلِف والمُخْتَلف على شخصيته، شاعر وطأ التراب فأشعل مجرات متحركة في فضاء النص الشعري الجديد، ووطأ الوظيفة فأشعل النفوس الواثقة بالجمال والعدل، ووطأ الحرية فأشعل إيقاعات ذاته وأطلق أجنحته بعيداً عن الصورة النمطية التي كان يعيشها أبناء زمنه، شاعرٌ حضر فينا متأخّراً رغم تقلّبات نصوصه في نفوسنا العطشى لمحاورته والاطّلاع على أشجاره، وغاب عن حقول الدراسات التي تتكدّس صباح مساء، ولكنه كان زناداً ضاغطاً لكل العقول التي كانت تعيش معه في رفض     كلّ ما هو كامن في الشخصية الواحدة، إنه شخصية عابرة للفطنة فاحتوت كلّ الشخوص، وعابرة للنص فاحتفلت باليومي وغير العابر، شخصية لم تبذر قمح عنفوانها في الأردن فحسب، بل كانت البوصلة التي اتجهت إلى دمشق وغيرها من الموطن العربي الواحد. كان عرار حارساً لنا، فهل كنّا كذلك، وكان شاهداً على تحوّلاتنا، فهل ترجّلنا عن غفلتنا لنقرأ تحولاته، وكان ضالعاً بالوسيلة التي رآها تنقذ الأرض والإنسان، فهل احتفظنا بمداد وسيلته، أم أضعناه وأضعنا سلّمه الذي رفعه عالياً لنصعد إذ يخذلنا الأمل، وكان شاهداً علينا في نبوءة قصائده، ولكننا فرّطنا بمفرداته وأصغينا لجلبة في ممر النكران، كلّ هذا ونحن نرى ضياع جبّته ولا نحرّك ساكناً، وكأنّه عابر سبيل تفيّأ ظلّ شجرة في حيّنا ورحل ولم يبق منه إلا سكون الرماد، الرماد الذي كادت الريح تذروه في متون العدم، لولا البصيص الأوّل والذي أعاد إشراقة ” يا أردنيات إنْ أوديتُ مغترباً”، لتسارع شقيقاته ووزارة الثقافة بترميم بيته وروح أنفاسه على تلّ إربد، ولكن هل كان كافياً هذا؟، وهل سيعيدنا إلى تتبع أثره، وقد أصبح بيته كما سائر المنتديات، وكأنني به يقوم من مرقده مؤشراً على خلايا النحل التي ظنّ أنها ستقيم بيوتها في ساحته السماوية. فعلت خيراً جامعة اليرموك إذ استحدثت ”    كرسي عرار” للدراسات الثقافية والأدبية، حيث شكّل يوم الأحد في التاسع عشر من شهر حزيران لعام 2011م، نقطة جذب غير خاضعة لمجريات العمل الروتيني، والفزعة التي ينشدها كلّ من راقَ له بيتٌ أو قصيدة لشاعر الأردن، لأنّ في جبّة البحث ثمة أمكنة وأزمنة وأحداث وشخوص، طواها العمل الروتيني والبحث الفردي، وقضى عليها سبيل النسيان، فأهدر قيمتها، وأعطب حراكها. وإذا كانت شقيقات الشاعر قد تبرعن ذات أمنية ببيت الشاعر ليكون محجّاً للمبدعين، فإنّ ” كرسي عرار” فتح الأبواب المغلقة والكينونة الغامضة لكلّ غرسة في تربة عرار، بحثاً وتنقيباً ودراسة، إلى جانب تشكيل الوعي بمنهجه وتوجهاته والتي بقيت غامضة أو غير متفق عليها من قبل الباحثين والدارسين والمبدعين أنفسهم. ذلك هو ” كرسي عرار”، وتلك هي الإشارة الأولى التي وقف عليها شاغل الكرسي الناقد د. زياد الزعبي، الذي اجتهد فأصاب، وهو يقدم وثائق عرار في سياق التوثيق للذاكرة الوطنية الأردنية لمواجهة ما عانته هذه المنطقة من قلة الاهتمام وضعف التوثيق خلال العهد العثماني، حيث تشكّل الوثائق مصادر موثوقة للحياة السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية والإدارية للمراحل التاريخية للدولة، كما من شأن هذه الوثائق أن تغير الصورة النمطية المترسخة عن شخصية عرار، فهي تظهر عرار كشخصية وطنية فاعلة كما يقول شاغل الكرسي، إلى جانب اهتمام الكرسي لاستحداث معرضاً خاصاً بوثائق مصطفى وهبي التل الصادرة عن مؤسسات الدولة المختلفة كرئاسة الوزراء والديوان الأميري والسجون، وأخرى تمثل مراسلات شخصية مع الملك المؤسس وعدد من الشخصيات البارزة في فلسطين والعراق وسوريا وغيرها. وكشفت الوثائق التي استدركها الكرسي عن شخصية عرار التي تفارق ما هو معروف متداول عنها، إذ بيّنت الوثائق أن عراراً ليس شاعرا بوهيمياً فقط، ولكنه شخصية وطنية فاعلة في جميع النواحي ومنخرطة في سلسلة من الأعمال والنشاطات المتشعبة والمكثفة، لهذا يطرح الكرسي في سياق بحثه عن شخصية عرار ووثائقه جملة من الحقائق، أهمها: لمذا اختزلت شخصيته في الشعر بشكل شبه كامل، ولم لم يقف الباحثون والمؤرخون على الصورة الحقيقية لهذه الشخصية، ولم غابت الوثائق المتعلقة به وبمرحلته من الكتابات المتعلقة بتاريخ الدولة الأردنية وشخصياتها ورموزها، ولماذا لا تستقرىء المادة التاريخية والأدبية المتوافرة لتقديم دراسة علمية مستندة إلى المعرفة عن عرار ومرحلته ويلفت الناقد د. زياد الزعبي إلى أن الوثائق تقدم بشكل محوري إضافة كبيرة لحضور عرار السياسي ودوره، ولطبيعة شخصيته الموصوفة بالتمرد والبوهيمية، وينوه إلى أن كماً كبيراً من الوثائق والأوراق قد ضاع أو تلف أو أنه محفوظ في أماكن أخرى وعند أشخاص آخرين. بشكل محوري تقدم الوثائق إضافة كبيرة لحضور عرار السياسي ودوره، ولطبيعة شخصيته الموصوفة بالتمرد والبوهيمية، وهذا أمر سيجعل من الضروري إعادة قراءة هذه الشخصية في ضوء المعطيات التي تقدمها الوثائق.* إلى جانب اهتمام الكرسي بشخصية ووثائق عرار، ومحاولته الجادة إلى التنقيب والبحث المستمر عن جوانب أخرى مخفية في شخصيته، يُعنى الكرسي بالشخصيات والرموز الأردنية، حيث أنجز الكرسي مجلدين من وثائق د. محمد صبحي أبو غنيمة، يضم المجلد الأول” الوثائق الأدبية والعلمية”، فيما يشتمل المجلد الثاني على الوثائق السياسية لأبي غنيمة. كما نظم الكرسي باقة من الندوات العلمية والأدبية، من أبرزها: ندوة علمية عن ” عيسى الناعوري مبدعاً وباحثاً”، إلى جانب الأمسيات الإبداعية التي يحتفي بها بالطاقات الإبداعية الشابة، حيث نظم أكثر من أمسية شعرية في هذا السياق. يطمح كرسي عرار إلى جمع الوثائق والصور والأوراق الخاصة بعرار ومرحلته التاريخية، وحفظها وتصنيفها وتفريغها، وإخراجها في صورة مناسبة تتيح للباحثين الرجوع إليها، إقامة معرض دائم لبعض الوثائق والصور والأوراق الخاصة في مقر الكرسي، وهي ذات أهمية أدبية وثقافية وسياسية كبيرة للحياة في الأردن في النصف الأول من القرن العشرين، إنشاء مكتبة خاصة تضم آثار عرار المنشورة والمخطوطة، وجمع ما كتب عنه من رسائل جامعية، وكتب، وأبحاث، ومقالات، وما أنتج عنه من أعمال فنية: ندوات تلفزيونية وإذاعية، وأفلام تسجلية ومسرحيات، السعي إلى الحصول على الوثائق والأوراق الخاصة بالشخصيات الأردنية التي أسهمت في الحياة الثقافية والأدبية والفكرية ، وبخاصة في مرحلة تأسيس الدولة الأردنية، تنظيم ندوات ولقاءات علمية تبحث في الحياة الثقافية والفكرية والاجتماعية في الأردن، وتبرز دور الرواد من الأدباء والمثقفين في تشكيلها، ودراسة آثارهم والعمل على نشر ما لم ينشر منها، إنشاء موقع الكتروني رسمي خاص بالكرسي يتيح للباحثين معاينة مقتنياته من الوثائق والصور والأوراق الخاصة، والنصوص والدراسات المتعلقة بعمل الكرسي وأهدافه، إصدار مجلة فصلية متخصصة تهتم بالدراسات الأدبية والثقافية في الأردن، توجيه طلبة الدراسات العليا لكتابة أطروحات عن الحياة الثقافية ورموزها في الأردن، إنشاء موقع الكتروني يعرف بالكرسي ومقتنياته ونشاطاته ومشاريعه، التعاون مع الباحثين من الجامعة وخارجها للقيام بدراسات تتوافق مع أهداف الكرسي، رعاية الإبداعات الشبابية من خلال نشاطات علمية وندوات بحثية بالتعاون مع المؤسسات الثقافية . هناك نصوص غائبة ووثائق وأحوال ومقامات، هذا ما تؤشّر عليه متون ما كتب نثرا وشعرا وفلسفة وفكرا، وهناك صور وتجلّيات ربما تركن هنا أو هناك في بيت ما، وهي تشكل إنْ ظهرت ملامح أخرى ربما لم يستطع الحرف أن يقف عليها، وهناك مراسلات ربما ستحيلنا إلى تحليل شخصيته وشخصيات أخرى من مجايليه، وهناك، وهناك، وهناك عرار ” مصطفى وهبي التل” يرقد في بيته على سفح تلّ إربد ينتظر إعادة النص الغائب من أسطورته
 ___________ 
 مرجع: حوار أجريته مع شاغل الكرسي الناقد د. زياد الزعبي لجريدة الرأي بتاريخ 11/10 / 2014م



إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x