هناك أعمال شعرية تشبع المتلقي، بحيث يقرأ جزءا/ شيئا منها فيكتفي بما قرأ، ويعود لاحقا لمتابعة الكتاب، هذا الأمر وجدته في ديوان على "حافة الشعر" لفراس حج محمد، وفي "مديح الوقت" لمرزوق حبي، وفي "كتاب الحصار" لأدونيس، اللافت في هذه الأعمال أن عملية (الشبع/الاكتفاء) لا تعتمد على حجم الديون بقدر على ما فيه من مادة شعرية، فرغم أن عدد الصفحات قليل إلا أن الزخم الذي تحمله القصائد كاف ليكون المتلقي قد وصل مبتغاه وأشبع حاجته مما يريده من الشعر.
هذا الديوان الثاني لأحمد الخطيب الذي أجده أكثر من ديوان، فبعد "حارس المعنى" يأتي "هناك حيث أنا" ليؤكد للمتلقي أن هناك شعر غير تقليدي، له وقع/أثر خاص.
الديوان مكون من: "قصائد الوله، قصائد الذاكرة، قصائد الشبيه، قصائد اليقظة، قصائد اللغة، قصيدتان، باتجاه قصيدة أخرى، قصائد لا تحتفي بالعدد، قصيدة اللعبة، قصائد التناص، قصائد الغبار، قصائد أحمد بن يوسف ، قصيدة الزمن" وكل (مُكون) من هذا المُكونات له شكل وطريقة تقديم تناسب المحور الخاص به، ففي قصائد الوله يمكننا أخذ "قصيدة الوله" لتبيان العلاقة بين الشكل الذي قدمت وما تحمله من مضمون:
"إذا فاقت الشمس من نومها
واستدارت إلى الظل، هذا الذي
حارسي أوله
يرى صاحبي
أنني لم أمارس صحوي
كما ينبغي
في حدود الوله
لذلك قلت:
سأشرب من قهوة الفجر
كأسا مباحا
إذا الشمس قد كورت أجمله
لأكتب كل الذي كان من حلم لم ينم فيه صدري
حين باع الصدى أوله" ص11.
إذا ما توقفنا عند المشاهد سنجد شروقا، وهذا كاف ليقول (الرائي): "الله ما اجمل هذا الشروق" فالشمس في بداية ظهورها تكون في أبهى صورة، وهذا ما يجعل شروقها مدهشا للمشاهد، لكن الشاعر في القصيدة لا يتحدث عن شروقا عاديا، بل يقدمه بقالب شعري غير عادي: "فاقت الشمس من نومها" فهو يتحدث عن إنسانة، وهنا يكون قد أضاف جمالية أخرى على جمال الطبيعة من خلال أنسنة الشمس، وهذا أيضا يجعل القارئ/المستمع يقول: "يا الله ما أجمل هذا الشعر" وهكذا يكون الشاعر قد جعل المتلقي ينطق بكلمة تشير إلى إعجابه بما يشاهد/ يسمع وتتماثل كلمة "الله" بنطقها/بلفظها مع الوله.
وإذا أخذنا قافية القصيدة "الهاء التي نجدها في "اوله، الوله، أجمله" يمكننا التأكيد أن هناك علاقة بين الأبيات والمضمون الذي تحمله وبين تفاعل/تأثر القارئ بما يقرأ.
عندما نشرب شيئا لذيذا ممتعا، نعبر عن إعجابنا به بقول: (الله الله)، فعندما تكون قهوة الفجر/ الصباح معد برائحتها الذكية وبطعمها اللذيذ بالتأكيد ستجعل شاربها ينطق "الله الله" وهذا ما أوصله لنا الشاعر في المقطع الثالث الذي جمع فيه جمال الطعم والرائحة مع جمال البصر "الشمس كورت"، وبهذا يكون قد جُتمعت ثلاثة أشياء/ حواس جميلة، الطعم، والرائحة، والمشاهدة/البصر، وما استخدامه ل "أجمله" إلا تأكيدا للجمال ثلاثي الحواس.
في قصائد الذاكرة يقول في قصيدة: "لا تكن واقعيا":
"حال بيننا الموج
يا سيدي الشعر،
هذا نشيدي أمام الخطاة
يحال دروعا
لا كمان لأبنائنا
إذ نسوس الجبال، وننسى الفروعا
لا تكن واقعيا
وأنت تعيش الخيال ركوعا" ص19و20.
اللافت في هذا المقطع جمالية الحكمة التي يحملها، فهناك دعوة للثورة والتمرد على الواقع، وهناك جمال ثنائي، جمال مزدوج، جمال الفكرة/المضمون، وجمال الشكل الذي قدمت به، وإذا ما علمنا أن الشاعر يتحدث عن مشهد البحر وما فيه من موت، وعلمنا أن الديوان نشر في عام2005، نصل إلى نتيجة أن الشاعر تنبأ ما سيكون عليه حالنا وحال أبنائنا قبل وقوع كارثة الربيع العربي التي أجبرت/دفعت الآلاف من شبابنا لخوض غمام البحر بحثا عن النجاة، بحثا عن الفردوس الذي فقدوه في الوطن.
وفي قصائد الشبيه نأخذ شيئا من قصيدة "صاحب الظل" التي جاء فيها:
"كأنك ما كنت لي
و كنت تشبه أشجارنا
وما كنت تمشي إلى
جمر نارك
كأنك ما كنت لي
ولا كنت تسعى معي
في منازل غارك" ص31.
بداية ننوه إلى وجود علاقة/تقارب بين "الظل" والشبه/الشبيه، وهنا يكون العنوان الفرعي للقصيدة "صاحب الظل" مرتبطا مع العنوان الرئيس، وأيضا هناك علاقة تكاملية بين الظل وصاحبه، من هنا جاء تكرار "كأنك ما كنت لي" التي تربط مقاطع القصيدة مع مضمونها، وإذا ما توقفنا عند: "تشبه، أشجارنا، تمشي" التي جاء حرف الشين مُكون أساسي فيها، نصل إلى توحد اللفظ والحرف في خدمة المضمون الذي تحمله القصيدة.
وفي قصائد اليقظة نتوقف عند قصيدة "ندى الورد" لنرى نبوءة الشاعر بتيه البحر الذي أخذ منا الكثيرين:
"حبيبي
وشاهدت عمري
تداعت عليه رياح الطريق
كما معثرات السواحل
إن نام الشط
ولم يحن رأسي
لأرشف دمي
من مرار هذا الغبار
ولم يسأل القلب
أن لا يطمطم ماء العذوبة
في الكأس
حتى إذا غاب عنه الكلام
تمرأى فقط
بجفن الوسط
وما باح قط" ص45و46.
نلاحظ أن الواقع البائس حاضرا في" عمري تداعت عليه رياح الطريق" وأهوال البحر نجدها في: "معثرات السواحل/إن نام الشط" ورغم أن رؤية الشاعر لم تكتمل لما سيكون عليه الحال عندما جعل "لا يطمطم" متعلقة بالكأس/بالكلام وليس بالبحر، إلا أن الفكرة الاضطراب/ التيه كانت حاضرة من خلال: "طمطم" التي نجدها أثرها في:
"تمرأى فقط
بجفن الوسط
وما باح قط"
فحرف الطاء الذي انتهت به "فقط، الوسط، قط" جاء بأثر عدم اكتمال الكأس/الكلام، وإذا علمنا أن المقطع الأخير متعلق بحاسة النظر" تمرأى، بجفن" وبحاسة السمع "باح" نصل إلى حجم الضياع الذي نمر/ يمر به، وهذا يقودونا إلى سبب عدم اكتمال النبوءة/ الرؤية/ القراءة المستقبلة التي تحدثت عن البحر وما فيه،.
وفي قصائد اللغة نتوقف عن ما جاء في قصيدة العنوان: "هناك حيث أنا محتمل":
"بعيدا هناك
حيث يدي سلة للفضاء القديم
وحيث الندامى يصلون خلفي
وينسحبون تباعا
لأني خلط الحلال حراما
رأيت دمي في الحديقة، يسعى
فزوجته وردة ذات نحل
وكنت له في الصلاة إماما
وبعد الخروج من النفس
حاول أن ينتمي للحياة
ولكنه بعد ليل طويل
تعلق مع ذاته وتسامى" ص55.
بداية القصيدة نجد حركة للناس، حركة رجوع/ عودة بعد أن وجدوا الشاعر يخلط "الحلال حرما" وهنا نتسأل ما الداعي لهذه الحركة؟ وهل لها مبر؟ وهل الشكل الذي قدم به الخلط منفر/ مستفز للقارئ، أم أنه قُدم بشكل متناسق وجميل؟ للإجابة نعود إلى فاتحة القصيدة:
"بعيدا هناك
حيث يدي سلة للفضاء القديم
وحيث الندامى يصلون خلفي
وينسحبون تباعا
لأني خلط الحلال حراما"
فنجدها متناسقة في الحدث ومنتظمة في الحركة: "يصلون/ينسحبون/ تباعا" وأيضا نجد تناسق/ انتظام في شكل الألفاظ "خلط الحلال حرما" وبهذا (يدين) الشاعر حركة الندامى التي تتنافى مع طبيعته المتنظمة والمتناسقة، فمن يقدر على تقديم (خصومه) بهذا الانتظام، بالتأكيد وهو شخص أنيق/ نظامي، فكيف لهم أن يتركوه!؟
تحرر/ انفصال دم الشاعر عن الشاعر أمر مثير ويستوقف المتلقي الذي جاء بعد أن تركه "الندامى":
"رأيت دمي في الحديقة، يسعى
فزوجته وردة ذات نحل
وكنت له في الصلاة إماما"
وهنا يظهر الشاعر الخدمة الجلية التي قدمها لدمه" "فزوجته وردة ذات نحل" فكان له إمام/معلم/أب، وإذا ما توقفنا عند الألفاظ المتعلقة "بدمي" سنجدها بمجملها ألفاظا بيضاء ناصعة: "الحديقة، يسعى، فزوجته، وردة، نحل، صلاة، إمام" وهذا الجمال/ البهاء أصبح جزءا من طبيعة دمه الذي تشرب الوردة وتماهى معها.
لكن بعد رحيل الشاعر "دمه لم يستطع أن يبقى بين واقع فيه "ندامى/ الليل" فآثر الرحيل وهجرة الواقع:
"وبعد الخروج من النفس
حاول أن ينتمي للحياة
ولكنه بعد ليل طويل
تعلق مع ذاته وتسامى"
كان يمكن أن تكون حركة الهجرة عادية، لم كان مستقيمة، لكن الشاعر جعلها حركة صعود باتجاه الأعلى، إلى السماء، وهنا يكون قد أشار ـ بطريقة غير مباشرة ـ لا عدم انسجامه مع الواقع، فلا "الندامى" بقوا معه لعدم فهمهم طبيعته الجميلة والمتناسقة فتركوه والعيب فيهم ليس فيه "خلط الحلال حراما" ودمه وجود الواقع ليل طويل فهاجره إلى مكان صعب الوصول إليه، إلى السماء، إلى أعلى.
وإذا ما توقفنا عند حركة الندامى "يصلون خلفي، ينسحبون" وبين حركة دمه الصاعدة إلى أعلى نعلم حجم الهوة التي تفصل الشاعر/دمه عن الواقع.
الديوان من منشورات وزارة الثقافة، عمان، الأدرلان، الطبعة الأولى2006.