الغيمةُ في قلبِ الشمس




على نحوٍ ما، كنتُ حالِماً وَمُتَخَيِّلاً، كان ذلك في منتصفِ سبعينياتِ القرن الماضي، بعد أن عُدتُ من المدرسةِ أدرُجُ على بساطٍ من طين، ولا أعلمُ هل سترقُدُ الغيمةُ في قلبِ الشمس، أم أنها لن تكترثَ لِشَقاوةِ هذا الفتى الذي كان يدفعُني تجاهَ التمسُكِّ بهذا البنطالِ الذي رقّعته والدتي كثيراً، البنطال الذي ينطوي على محيطاتٍ من الألمِ والأملْ كما كنت أتخيَّلْ.
ربما تتساءلون ما حكايةُ هذا البنطالِ الذي شَكَّلَ مسرَباً لهذه الشهادة، فأقول لكم، لم تتسع يدُ والدي لأحفلَ بأكثرَ من بِنطالِ أو بنطالين، ومن عايشَ تلك الفترة يتذكّرُ اللوحاتِ الجميلة التي كانت تعبثُ بمِزق الثياب التي كانت ترقِّعُها الأمهات، إذن، هي حالةُ الفَقر، ربما، أو حالةُ الانتماءِ لطين الشوارع، ربما، أو حالةُ المخيم الذي ارتبطَ بإيقاعاتِ السهل والتل والكهوف، إنه البِنطالُ المُتعلِّقُ بالفتى تعلُّقاً بصرياً، والمتحصِّلُ فيما بعد على جملةِ الأذوناتِ الشعريةِ التي احتفلتْ بها تجربتي.
على نحو ما، كنتُ حالِماً ومُتَخَيِّلاً، راقبتُ شقوقَ البِنطال وهي تتمدَّدْ، وراقبتُ الرُّقعَ التي تسجتها يدُ الأم الحانية على أطفالٍ كانوا قريبي العَهد من اللجوء الأول وما تلاهُ من نَكسات، هل ثمةَ رابطٌ بين الرُّقعِ والحدوسِ التي تشيرُ إلى اللجوء الأول، أظنُّ ذلك، بل أكادُ أَجْزُمُ أن الشقوقَ التي كانت تتمددُّ في جسد البنطال، ما هي إلا خارطةً بصريةً لتلك الحدوس التي كَشَفتْ عن حرفها الأول.
إذن من أين أبدأ، من هذه البرقية التي بدأت مبكراً، وأنا مثقلٌ بمراراتٍ كثيرة ما زالت تراود طقسنا العربي، أو من غربةٍ دراسية قادتني فيما بعد إلى ضفاف الدانوب، وكلاهما حاضرٌ في عروق الدالية الشعرية التي انتشرت أصابِعُها منذ عام ألفٍ وتسعمائةٍ وخمسةٍ وثمانون، إلى أن استقرت على أرضٍ أظنها خضراءَ خضراء إلا من بعض الشوائب التي يهاجمها الخريفُ بغتةً، ولكنها مع ذلك استشعرتْ فكرة الضياع والمنافي.
هكذا ينتظر المتلقي أن أبدأ شهادتي الإبداعية، أن أسرُدَ منازلَ الولادة والمؤثرات، ولكنني سأتجِهُ إلى منازلَ أخرى، فأنا هنا لأُقدّمَ شهادةً حول فكرة الكتابة ومآلاتها، حول اللغة وتحولاتها، حول الشعر الذي لم يفارقْني منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، وليس لأقدّم سيرةً حياتيةً، رغم ما يشي به مستهلُ هذه الكتابة.
كانت الكتابةُ في البدايات لعبةً يوميةً للتفاعل مع كيمياء الطين، حواراً مع الواقع على ما هو عليه، نسخَ الحكاية التي تتناقلُها الألسن، الإصغاءَ إلى ذبذبات القلب، مشاكسةَ الصبيِّةِ التي كانت تتعلّقُ بأنهار من عسل الحياة، العبورَ إلى أثقال الأحَمال اليومية للعائلة، التفاعلَ مع حركة أبناء المخيم وهم يجوبونَ الشوارعَ بهُتافاتٍ وطنية، أما الآن فالكتابة أصبحت حالةً مرتبطةً بالأنساق الذاتية، فأنا أكتبُ في سياق هذه الحالة، فالكتابةُ لحظةُ اتصالٍ تفاعليٍّ، يصطفيها المبدعُ اصطفاءً نورانياً للوصول إلى موائد التجريب، أكتبُ وأنا منشغلٌ بهذا النزق السريع المباغت الذي يمرُّ على شبكة الرؤيا، أترصّدُهُ، وحين أضارعُ طيفَهُ العابرَ، تراني أُحيطُ نفسي بكل مفردات العبث، فالمادةُ الأولى للكتابة لا تأتي من نظام صارم يفرضُهُ المبدعُ على نفسه وعلى حروفه، بل من عبثيةٍ يظنُّها المرءُ للوهلة الأولى كتابةً طفوليةً لا هدفَ ولا مسارَ لها، ولكنها في حقيقة الأمر كلامٌ ناسخٌ لهيمنة الواقع، يمرُّ في شعابه، ثمّ يستوي على ما يُريد.
أما على مستوى اللغة، فقد كانت البداياتُ لغةً انطباعيةً قاموسيةً، حيث البساطةُ التي تلفّعت بها بيوتُ الطين، والبساطةُ التي هندستْ حياةَ الناس البسطاء المغلوب على أمرهم، والبساطةُ في التعامل مع كل شيء، ومراقبةِ الطابور أمام مكاتب الوكالة، والوقوفِ أمام حنفيات المياه المشتركة، أو مراقبةِ الطائرات وهي تصُبُّ جحيمَها على النساء اللواتي يَحْفُرنَ التل للحصول على التراب من أجل إضافةِ غرفةٍ طينيةٍ جديدةٍ إلى بيوتِ اللجوءْ، لهذا كان لا بدّ من الاستعانة بلغة الناس وأهازيجِهم!

إذن هي اللغة التي نعرفُها، ونُقيمُ على كرّاسها المدرسي، وهي اللغة التي كنّا ننسجُ حيواتها من حَنْجَرة المفرداتِ التضامنية مع النوازل التي كانت تُصيبُ أهلَنا في فلسطين، لغةٌ اعتياديةٌ، احتجاجيةٌ، لغةٌ تنظرُ للطيور ولا تمعنُ النظرَ خارجَ سياق الفخاخ، اللغةُ التي يحتاجُها المراهقُ في طريقه إلى التلصص الجميل على غزالةٍ مدرسيةٍ، أو غزالةٍ بريّةٍ عابرةٍ إلى شؤونها المنزلية، لغةٌ حصّنَتني، وأقولُ حصَّنتني، لأنها كانت تمارسُ مداراتِها للوقوف مع الناس وهمومهم، مع العشّاق وأسرارهمْ، تماماً في تلك المرحلة المبكرة من العمر، وبقيت حصنيَ المنيع في دائرة التوجس حتى ظننت أنني لن أجدَ غيرَها مُؤنِساً.
إلى أن نفختْ الغربةُ في قصب التحوّلات، فكان لا بدّ لهذه المؤنِسةِ أن تُسايرَ حاجتي، فأصبحت اللغةُ حدائقَ أخرى، تنطوي على مجازاتٍ واستعاراتٍ وانزياح، أو بالتحديد تنطوي على لُعبةٍ لغويةٍ أُحرِّكُ مفرداتِها كما تشاءُ المُخيِّلَة، إنها اللغةُ التي لا يستقيم الشعر معها دون تراسلها في مِخيال القول وحدوسه، اللغة التي تعينُك للنظر إلى عين الشيء، والتي تتقاطعُ مع كلِّ ما يقعُ تحت حركة الجملة، هكذا أصبحتُ أنظر لعالم الطين، وأحاول أن أُلْحِقَ بهذه اللغةِ أرواحَ المعاني، ومتانةَ التشكيل، إذا ما استطعت إلى ذلك سبيلا، لأقفَ على نصٍ شعريٍّ  له مؤثراتُهُ وتحولاتُهُ وتغيراتُهُ، يولدُ، وينمو، ويكبُرُ، ويضارعُ الواقعَ، ويتأملُ، ويسافرُ، ويعودُ محمَّلاً بكلّ منازل الرؤيا التي يطمحُ أنْ يستدرِجَها شاعرٌ 
الشاعرُ يحتاجُ إلى سماواتٍ أخرى، يقف على أجرامِها، ويتراسل مع حركتها السريعة
إذن كان لا بدّ للأصابع أن تنتشر، لتعاينَ هذه التحولات منذ قيامتِها الأولى، كان لا بد لها من كَسْرِ ذلك الروتين الذي تركَ أثرَهُ في لعبةِ العبور من بوابة مدارس الوكالة حتى المساءات الأولى على ضفاف الدانوب، كان لا بدّ لها أن تقيني عثراتِ التكرار، وأن تخلُدَ إلى نفسها بنفسها، أن تكونَ هي كما تريدُ لا كما تطبعُهُ ذكرياتُ القراءة وحماسةُ الشباب، من هنا كان لا بدّ أن أمارسَ فعالية الركض في المناطق الشائكة التي تحتاجُ إلى مقارعة الآثار الخالدة في مصادر الشعرية العربية، فلا نصَّ دون مشاكسة، ولا  معنى دون مراوغة، ولا موسيقى دون الإنصات إلى عصافير المخيّلة.
الشعرُ حين انتقل من الحالة الشَفَاهية إلى التدوين، أصبح بحاجةٍ إلى خَلوةٍ من نوعٍ خاص للتواصل، خلوةٍ لا تقيمُ وصالَها قاموسيةُ المفردات، بل تلك النزعةُ التأمليةُ فيما وراء الفخاخ التي يَنْصُبُها النصُّ، نزعةٌ تصطادُ وعيَ الارتباك الذي يصيبُكَ وأنت تقفُ عاجزاً أمام مَشهدِ التشقُّقاتِ الطينيةِ التي يقابلُها مشهد البِنطال الذي صارَ مُلكاً لأخيك الصغير، إنه بحاجةٍ لتلك الهالةِ النورانيةِ التي تقفُ بين الحالة وعينِها، النورانيةِ التي لا تتكشّفُ، ولا تكشفُ عن حيواتِها أمامك إلا بعد عناءٍ شديد.
وبما أن الشعرَ مكابدةٌ وجوديةٌ، إذنْ الشاعرُ يحتاجُ إلى سماواتٍ أخرى، يقف على أجرامِها، ويتراسل مع حركتها السريعة، مما يُشكّلُ حاجزاً شفيفاً يحتاجُ من القارئ أن يتهيّأ للعبة التمارين ليصلَ إلى الشواطئ الغامضة التي سيحطُّ عليها رحالَه وطمأنينتَه واستقرارَهُ على معنى، وليس على المعنى، فالشعر  كما أرى يندفع تجاه تكسير المستقيم، ويتأمل الجبال والمنحدرات، فهو  وليدُ هذه الغاية، لهذا فالمعاني التي يطرحها مُراوغةً غيرَ مستقرةٍ.
وأخيراً من الصعوبة بمكان أن أُلَملِمَ كلَّ مفرداتِ تجربتي، وأن أفتحَ كرّاسَ أربعينَ عاماً، بدأتْ بأصابعَ ضالعةٍ في الانتشار عامَ ألف وتسعمائةٍ وخمسةٍ وثمانون، واستقرّتْ على اثنين وعشرين ديواناً، كان آخرُها " قميصُ الأثر" الذي صدرَ العامَ الفائتْ.

إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x