الأكاديمي بين الفطرة والقيود





   ينتمي الفعل الإبداعي إلى قاطرة تتحرّك وفق هندسة يؤثث أضلاعها، ومستقيماتها، ودوائرها، مبدع انحدر من سلالةِ روحيةٍ تصغي إلى مشوارها الكوني الوجودي، من لحظة الصفر، وحتى افتراق المسافة الضوئية عن المسافة الدُّنيا في الأرض، ذلك، وإنْ كان للتجربة متسع آخر، بالضرورة أن ينتمي إلى بيئة الحرف المتصوّفة بالرؤيا، لا أن يتكئ على أجنحة العلم وحده، فبين البيئة والعلم مسافة لا يجوز أن تجمع فيها، وإن جاز أحياناً القَصر.
   ليس هذا رفضاً لكلّ منتجٍ يأتي من بيئة أخرى مغايرة، وربما تكون مخاتلة، ليس رفضاً وحَجْراً على أحد يودّ لو ملك السماء فأنضر، وتجلّى، إلا أنها مقابسة لأفعال أدّت إلى تشظي كينونة الكائن الذي يسمّى الشعر بوجه خاص، والإبداع بوجه عام، تشظي، تعاقب على مبرراته الكثير ممن علِقوا في برج الدرس الأكاديمي، وكأنّ " سراباً" ما، يحسبه الظمآن ماءً، شرخ نظر الأكاديمي وهو يسعى إلى خيمة لم تنصب له، ولم تستأنس حضوره.
   الأكاديمي على مائدة الإبداع، هو مُحفّز، وضامن للتجلي، ومبصر ما تقع عليه المفردات، وحامل مبضع الجراحة لتقويم ما اعوجَّ منه، وهو مروّض الغموض، يحيلهُ إلى صور مرئية، ويفتح على الواضح نوافذ ما ليس يكتشفه القارىء العادي، وليس بالضرورة أن يكون منتجاً لغواية أخرى ربما تسير وفق بنية الفعل الإبداعي، وربما تقع في مطبّات الدرس الأكاديمي.
    إذا اقتربنا أكثر من الصورة البنائية لهذا التغوُّل الذي يحدث بين الفطرة، كونها المرآة العاكسة، والمعرفة، كونها المجال المغناطيسي اللاقط، فإننا سنرى الكثير من مرافعات المعنى في حضرة ما نرمي إليه، فالأكاديمي ميدان معرفي بامتياز، يجتهد لتخطي بنية المعرفة إلى تشكيلها، فيما تبرز الغواية التي يضطلع بها المبدع وهو يرفد المعرفة بمصادرها، ويغذّي منحنياتها، وما بين هذا وهذا، تحدث المواجهة بين التابع والمتبوع، فالتابع هو فعل استدراكي محكوم بقواعد محددة، فيما تظهر آلية التكوين عبر المتبوع الذي لا يركن للملابسات الجاهزة التي تحدثها النظريات المختلفة.
   ضمن هذه الملابسات التي لا يركن لها المتبوع، تنطلق صيرورة التابع، بحثاً عن مجازفات ربما لا يصغي إلى انزلاقاتها السريعة عبر تحطيم الكثير من قوانين المعرفة، لأنه، بالفعل منصتٌ إلى الدرس الأكاديمي الذي تشبّع بمفرداته عبر مراحل التعلّم، ولا أقول التبصُّر الذي نفتقده في الكثير من ممارسات البحث العلمي الذي ساد معظم أقطارنا العربية، ولكن هذا لا ينفي ملكة الإبداع الفطري عند الأكاديمي الذي دخل إلى ميدان البحث من باب التزوّد، فكثير من المبدعين، وقبل التحاقهم بالجامعات، كانوا متلبّسين بجنون الإبداع، منصتين لوسوسته وهلوساته، غير ناظرين  إناء المعرفة، إلا من جهة التقاطهم لقواعد اللغة ومداراتها.
   ولكن، هل يبقى المبدع المرتحل إلى عالم البحث الأكاديمي مخلصاً لهذه الوسوسة والهلوسة، وهل بمقدرته أن يلغي الحدّ الفاصل بين العبث والفوضى " بالمفهوم الشعري"، وبين الهندسة والنظام بمفهوم "الدرس الأكاديمي"، وهل بمقدرته أن يشي للخيال بالمناطق الشائكة التي عليه أن يجتاز أسوارها رغم المقيّدات اللغوية وغيرها من محظيات البنية المعرفية، كلّ ذلك نستطيع أن نتلمس مفاوزه في أسماء كثيرة ذهبت بعيداً في الدرس الأكاديمي على حساب المُعطى الإبداعي.
   يرى مبدعون، أن عدداً من الشعراء الذين أكملوا دراساتهم الأكاديمية، توقّفوا عند عتبات ما يجوز وما لا يجوز، فأفقر حسّهم وحدسهم، وأناخ رحال خيالهم، فيما يرى آخرون، أن القيد الذي تفرضه مجسّات المعرفة بالنظم والقوانين التي تفرزها المناهج الأدبية، قيّد معصمهم الدلالي، وجفّف مجرى حضور المتخيّل الذي لا تقام دولة الشعر إلا به، ويرى عدد من الذين التحقوا بالدرس الأكاديمي، أن نظم الدرس المعرفي، أصبحت تشكل عبئاً على حريّة التناول الذي يسعى المبدع من خلاله إلى تقديم مادته الإبداعية، إلى ذلك ينوّه آخرون، بتلك الحالة التي تقف حجر عثرة أمام المبدع الأكاديمي للانطلاق، وهي، اهتمامه بالحدوس النقدية التي تتلمذ عليها في الجامعة.
   ذلك لا ينفي وجود قلّة من الأكاديميين الذين استقرّوا على حالة الإبداع الفطري إذا ما تعلّق الأمر بكتابة نص إبداعي، مبتعدين، أو مفارقين التوجّس الذي يحدثه الدرس الأكاديمي، فيما يحضرُ الدرس الأكاديمي إذا تعلّق الأمر بالبحث العلمي والغواية النقدية، وكأنّ شخصيتين تعيشان في روح واحدة، لكل واحدة أهواءها وحضورها الزمني الخاص.
   يرى أحد المبدعين الأكاديميين أن الوقوف على الدرس الأكاديمي كاد أن يطيح به إبداعياً، لولا أن تداركه حبل الوسوسة المتصل بجذر الفطرة التي ولِدت معه، فصار يعيش بنفسيّتين وشخصيّتين مختلفتين، شخصية المبدع التي تنأى بعيداً عن مجسّات المعرفة التي حفظها المبدع عن ظهر قلب في الجامعة، وشخصية الأكاديمي التي ألزمها حضورها المؤقّت في قاعات الدرس، فيما يؤكد آخر، بأن الدرس الأكاديمي أثر تأثيراً كبيراً على مناخه الإبداعي، حيث أصبح الإبداع في ماكينته رؤى تصطحب ما يحوز ولا يجوز، يكتب النص، ثم يحاسبه وفق النظريات المعرفية كما يقول، مما أفقر النص حيويته ومائيته، ووضعه في مصاف العلامة الدلالية التي يُبنى عليها.
   لا تعارض بين الفعل الإبداعي والدرس الأكاديمي، ولكن ضمن شروط الكينونة التي يتمثّل بها كل منهما، فالفعل الإبداعي هو خرق للمسافات، وتغوّل على العادي، وإنصات للمتغيّرات، واحتفال بالتشظي، وتتويج للغيوب الدلالية التي تأتي من وادي عبقر، في مقابل تقارب المسافات، والركون للعادي، والتماهي مع الثوابت، والالتقاء بالتوازن الذي تحدثه التفاصيل، والاقتراب من الواقع المعرفي الذي يتأتى من الاطلاع على موارد ومصادر البحث العلمي، فإذا ما أحسن الأكاديمي لعبة الفصل بينهما، وتدريب الدرس الأكاديمي على الإصغاء للفعل الإبداعي المتبوع، لحظتذاك، ستمرُّ غواية النص سالمة مطمئنة عامرة بالجمال، وإلا أصبح النظم سيّد الموقف، ومطلق رصاصة الرحمة على هذا الكائن المسمّى الإبداع بوجه عام، والشعر بوجه خاص.



إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x