خيمة الجروع

 

   السور الإسمنتي الذي خدشَهُ حياءُ الزمن ، والباب الحديدي المنقوع بالزيت الحار ، لم يقويا على إغلاق نافذة الشتات أمام المستنجد ، الذي ظلَّ اثنا عشر عاماً وهو يرقب في خلوتهِ ، ذهنية التقلّبات التي تطرأ على والديهِ ، ورغم حداثة سنّهِ حاول أن يلعب دور الوسيط بينهما ، إلا أنّ حجم الفراغ الذي استقوى على صنوبر العائلة ، وجرّد المرآة من توادّها وحنوها على الأوجهِ الصغيرة ، ظلّ يتسع شيئاً فشيئاً ، حتى أصبح من المعتاد أن ينام الوالدُ خارج البيت ، أو أن تبقى الأمُّ لفترة طويلة في الزيارات التي لا تثمر إلا عن تفتيت حصى الإمكان في أن يبقى المستنجد وأخوه الذي يصغره بستة أعوام ، وأخته التي تصغره بأربعة أعوام ، بعيداً عن الشتات وعرضةً للعصف الفكري .

 

   لم يكن المستنجد الذي تقاذفته المدن الصناعية في هذا السن المبكر ، لتوفير أدنى مقوّمات الحياة قادراً على شطب ذاكرة الخواء الأسري ، لهذا قرر أن يفرّ من دائرة القبض إلى دائرة البسط ، ومن حال الفوضى التي يحياها ، إلى مقام النظر بعينين مفتوحتين على زمن سيجيء .

 

    امتلاء الأرض بالقطن الأبيض الذي ينهمر من الغيم ، كان هو الرابح الوحيد في منزل أبي المستنجد ، إذ طاش أولاده على سهم التشققات وهشاشة العظم ، والأنفلونزا الحادة التي تستوطن الذاكرة التي تعرف طريقها المشرع ،  ولكن المستنجد الذي وجد ضآلته بعد أن نقر عقرب الوقت في مخيلتهِ زمناً لا محالة قادم ، تقوّس حول ذاته ، ولم يعد رهيناً لتلك التقلّبات التي تدور رحاها بين أبويهِ .

 

    إذن الطريق من منزل أبي المستنجد إلى بؤرة التحوّلات التي طرأت على المستنجد ، وألقته في كهوفها ، هي طريق توفّر بعضاً من ثمار الوقت ، ولكنها تخدش سروال القوامة الذي من المفترض أن يتوفّر لكلّ من هو دون سن الرشد .

 

    ما بين بؤرة التحوّلات وانجذاب المستنجد إلى أخوتهِ عصا غليظة تقرع على طبل الممكن ، وتهشُّ على مرارة الضآلين ، ولكنها عصا ربما تتحوّل في ضربة واحدة إلى أفعى تأكل كلّ ما في طريقها ، وهي العصا التي سوف تبقى جناح المستنجد الذي لن تقصّه جمرة الخوف والرعب والحياء ,

 

  ليكن يومك الأوّل على حافة القبور ، بعيداً عن لهاث الزائرين ، وتغوّطهم فيما يجوز وما لا يجوز ، ليكن مفتاحك إلى التغوّل ، وقراءة الممكن، ولتكن مفرداتك الحلزونية قارئة لكلّ النفوس ، وما تخفي ، لتكن وحيداً في يومك الأول، لتجرّب كيف تتوازن أصابع يديك ، وهي تسير عبر مياه القطن الأبيض إلى مياه العيون ، لتنام وحيداً تحت صنوبرة يسهر الموتى في ظلالها ليلاً ، وهم يرقبون مجرات الحياة ، لتسامرهم ، وتحكي لهم عن أبيك الذي أدمن الموت وهو حيّاً ، وعن أمك التي ماتت تحت مخدر الأعصاب ، لتشجعهم على أن يرقبوا فيك إلّاً وذمة ، ليكونوا لك عوناً على ذاتك التي تتساقط مثل القطن الأبيض نتفا ، لتكن ليلتك الأولى جوازك إلى نبع التحوّلات ، ورهافة المعنى الذي تختصره القيم المادية في الزمن المر.

  

   هي الليلة الأولى التي يعود بها غبار بن المستكين إلى منزله ، بعد أن طوّحته الخمرة ، دخل متكئاً على حشرجة الصوت الذي يخرجُ من براكينه الصامتة ، بثيابه الرثّة ، وشعره الأشعث ، ولحيته التي تشاركت مع شعر صدره ، وشكّلت هيكلاً يشبه ذلك الإنسان البدائي ، الذي لم يكتشف الآلة والمسميات ، دخل بطيئاً كسلحفاة ، منكمشاً على ذاته ، ألقى بجسده المهزوز على الحصيرة الزرقاء ، ولم ينبس .

 

   في الصباح وقبل أن يغادر نظر نظرة خاطفة ، وما كان ليعي أن المستنجد لم ينم في البيت 

   

     الشمس بخطوط أشعتها المستقيمة ، لا يمكن أن تحدد وجهة غبار بن المستكين ، الرجل الذي تخطّى الأربعين ، وما زال الشيب في رأسهِ شاهداً على دولة الصراعات ، التي لا تنفكّ تحاصره بجيوشها ، وتزجّ بهِ وراء قضبانها ، إنها آلية الضعف التي توهن كلّ شيء ، والخمر الذي يسعى في جزئيات نصّهِ العبثي ، وكأسه التي لا تفارق غيمة الزمن ، ولا باخرة المكان ، أضف إلى ذلك الإحساس الذي يتقمّص ذهوله وشروده أمام راوية القاروري ، زوجته التي تجمّلت لكلّ مسمّى ، وحمّلته تبعية الانسلاخ عن الذات ووقارها ، وانفتاحها على مفردات الحياة ، زوجته التي تظنُّ أنها ما زالت بكراً ، رغم ثلاثة أجنة قايضوها عن أنوثتها .

  

   غبار بن المستكين الذي لم يرث عن أسلافهِ غير مقام العجز والانتشار فوق الحصى المدبّبة ، لا يعود إلى بيتهِ إلا بعد أن يكون قد وفّى رسالته العبثية ، ولا يخرج منه إلا بعد أن يستوفي الحسرة التي تفكّ مواسير قلبه ، عندما يرى أطفاله الثلاثة وقد صوّبوا نحوه سهام الحيرة والقلق .

 

   لم يع تماماً ما ترتّب له لغة الفراغ ، ولم يدر أن المستنجد ثمرة قلبه البكر ، في طريقه إلى مقام الغياب ، غياب الجسد .

    غياب المستنجد لم يؤشّر على مقام الغياب ، لأن غبار بن المستكين كان في أقصى حالات الذهول والشرود ،

 

     برغم ما فعلته به الخمر وشياطينها ، خرج ولم يسأل عن غياب المستنجد ، اكتفى بنظرة خاطفة ، لسلالم القهر ، خرج إلى حيث المدى رحباً وضيّقاً ، وكانت الطاقة التي أغلقت ، وما كان ليفتحها إلا بعد حين .

 

     في الطريق إلى حيث المدى رحباً وضيّقاً ، لا ينفكّ غبار بن المستكين ، عن الولوج إلى خيام الغجر ، لينضمّ لبضع الوقت إلى جوقة الجرْوِع الغجري ، تلك الجوقة التي لا شغل لها سوى الغناء والرقص والخمر .  

  

      حينما وصل إلى خيمة الجِرْوِع ، كان كلُّ شيء مجهزاً وطازجاً ، وبعد أن ألقى تحية الكؤوس ، ترك لجسده مساحة على يسار الجروع، المساحة التي لم تكن سمنة بنت الجروع أن تغيب عنها يوماً ، رغم حداثة سنها التي لم تتعدى الست سنوات .

 

    دار الغلام بالخمر ، وقفزت نوبات الدهر في صدر غبار بن المستكين ، وبدأ يتمايل على حنجرة الربابة التي لا تستعصي على أصابع الجروع ، وبدأت الجوقة بالترنّم بأشعار الشعراء الجاهليين ، وما صاغته قريحة غبار بن المستكين من ذهول وشرود ، في إيقاع الخبب ، خبب الروح وهي تنشد ما ضاع وما باع .

 

   كالغيوم التي تتلوى لتطلق شرارة المطر ، انطلقت سمنة مع خصرها النحيل ، على تمتمات الأصابع ، لتشكّل لوحة راقصة ، تنحني حيناً ، وأحياناً تتقاطع مع جسدها ، وكأن روحها لا يحدها الصلصال ، أو أنه يتلاشى تحت شهوتها وفورانها

 

  وفي حلول الشهوة على مسافة السرعة التي تتجاذب غبار بن المستكين ، تتفرّس روحه الجسد الغض ، والروح العذراء ، والرغبة المندلقة على شفاه السكارى وأحلامهم .

 

  _ لولا الزّغب الذي ينمو على جسد الزمن يا سمنة ، ولولا جمرة الكأس التي بيني وبين أبيك ، لقذفت بشياطين شهوتي وعبثي على صلصالك الجهنمي

 

    الهاجس الذي يبري سهام نظراته كلما رآها ، جعل منه شخصاً عارياً من كلّ شيء ، حتى من تلك المدخلات التي تشحن ذاكرته كلما تذكر راوية وكيف أنها لا تقيم له وزناً ، ولا لقربه نفساً ، ولا لأطفاله الثلاثة حرمة الزغب ، ولا لبيته الوثير جعة الصحو والأمان ، الهاجس الذي يسيطر عليه كلما رأى سمنة تتمايل ، هو الخروج من واقع الجسد إلى متخيل الروح وسكراتها ، والتهامها لكلّ شيء ، وكثيراً ما يجعله الهاجس عرضة للنوم على ذراع الجروع ، دون أن يدرك أن القماش الأصفر قد بدأ يسرِّب حمولته على بساط الأرض. 

 


إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x