منازل القصيدة

 

   الواصف ابن الخمسين خريفاً  ، لا يقرُّ له حالُ  ، تراه حيناً مخموراً شاحب البصر والبصيرة  ، وحيناً تراه يجادلُ أهل الصفوة  ، ويحرجهم أحياناً من خلال قدرته الفائقة على سبك الأحاديث  ، ولو كانت ملفقة في كثير من الأمور  ، سرعان ما يتنقل بين موضوع وآخر  ، ولا رابط بينهما  ، سوى أن من عادة أهل الصفوة أن يتغاضوا عن أشياء واضحة كالشمس  ، لأنّ الحال واحد  ، والمشرب واحد  ، ومعطيات النتائج واحدة. 

   لم يدر بخلد الواصف أنه صار هدفاً للمهندس  ، إذ كيف يدور في خلده ذلك وهو الذي كان يكثر من

وصف المهندس بأشياء إن تبدو لكم تسئكم  ، ولكن المحايثة التي يسعى إليها المهندس  ، لا تقيم للكلام الهوائي مكاناً .

   ما زال يتذكر جنازة سلطان الأعرج والكلام الذي قاله المهندس بأن العالم الافتراضي هو أحد الأسباب الكامنة وراء موت الأعرج  ، كيف يكون هذا العالم الجمعي سبباً في موت الأعرج  ، طالما حدّث نفسهُ أن يسأل المهندس  ، ولكن النفس التي بين جنبيهِ كانت تراوده عن هواه .

  لم يتزوّج الواصف  ، وكثيراً ما كان يما حكه نعمان الكاشف بالذكورة  ، حتى وصل الأمرُ بهما إلى الخروج عن العرف والتقليد  ، وكادت تنكشف ورقة التوت عن سرِّ المنحوت  ، لو لم يتذكّر الكاشف قصة

المغامرات البستانية التي روتها له زوجتهُ عن أرجوانه الأرملة التي ضاقت عليها الأرض بما رحبتْ  ، ولم تجد ملاذاً إلا في أنفاس الواصفِ  ، الرجل العبثي  ،

صمت الكاشف  ، ومدّ يده للواصف  ، معترفا بحقيقة من لا يعرفك يجهلك !  اطمئنّ الواصف لهذا الانقلاب  ومدّ يده ساخراً :

_ في لعبة النرد تظهر ذكورة الرجل

وفي محاولة أخرى لتلطيف النوايا ردَّ عليه الكاشف

_ أعرفك رجلاً فحلاً في لعبة النرد

   بدأتْ حركة حجر النرد تذرعُ جغرافية الكلام  ،وأهل الصفوة يتناوبون على الخطين الأبيض والأسود  ، حتى جاء صوت أبي المنقذ من الجامع الكبير :

_ الله أكبر  ، الله أكبر

  الجامع الكبير في المنطقة الوسطى للحارة السفليّة  ، تحيطُ به الغرف الطينية  ،وخلف جداره الشمالي تمتدُّ

نبعُ الحنفيّات  ، بوابتُهُ السوداء ضيقة  ، وتبدو أكثر ضيقاً في يوم الجمعة  ،

   منذ أن وعت الحارة السفليّةُ على خيامها وأروقتها الطينية  ، والشيخ أبو المنقذ إماماً ومؤذناً في الجامع الكبير  ، وأحياناً يساعده في نداء الأذان الحاج أبو الوداد

  لم تكن خطب أو دروس الشيخ أبي المنقذ فقط في دروس الفقه والأصول والسيرة  ،بل كثيراً ما كان يعرّج على متواليات الهزائم  ،وهموم الناس وانشغالهم باليوميات  ،والبحث عن التسلية  ،وركونهم لحلم العودة دون أيّ فعالية تذكر  ،وهذا الأمر كان يروق للمهندس  لأنه بمثابة الزيت الذي سوف يشعل فتيل قصيدتهِ  ، وكثيراً ما كانت رؤوس أقلام الخطبة أو الدرس  ، من تنقيب المهندس الذي كان يراهن أنّ قصيدته ربما تبدأ من هنا  ، أو من المدارس .


  خمسة أمكنة بارزة في الحارة السفليّة  ،فإذا ما ذكر الجامع الكبير  ،طغتْ على سطح الحكاية  ،مدارس الوكالة  تلك الأبنية الإسمنتية  ،والباب الحديديّ الأسود الجرار  ، وملعب كرة السلّة  ،والبطولات الكثيرة التي حازتْ عليها مدارس الوكالة في هذه اللعبة  ،ومدارس الوكالة تقسم إلى قسمين  ،المدرسة الشمالية المخصصة للذكور  ، وبمحاذاتها من الجهة الجنوبية المدرسة المخصصة للإناث  ،وكثيراً ما كان يقترب القمرُ من الشمس  ، ومطحنة الكاشف ذات الجدر الطينية  ، والباب الخشبي المخلوع  ، والبناية المستطيلة لتوزيع المؤن  ،بممرها الضيق الذي لا يتسع إلا لشخص واحد  ،وذلك الاحتشاد الإنساني المختلط في الممر والذي كان ينطوي على مفاتح المرارة  ،والمقبرة التي تفتح ذراعيها للذين يئسوا من أحلام اليقظة  ، كلُّ هذه المسمّيات كانت تشكّل عصب الحياة  ،وقنوات الاتصال لكلّ سكان الحارة السفليّة  ، وبالنسبة للمهندس كانت بمثابة الحراك الفني والإيقاعي لقصيدتهِ.

   هل ترى الغبطة تنسلُّ من أروقة الحياة  ، ومن شرايين الانتظار والترقب  ، هل ترى الأشعة فوق الحمراء  ، وهي تنعكس عن حيرة سكان الحارة السفليّة وهل ترى تلك المقبرة التي تستند على الشارع الهلامي.

الشارع الهلامي هو الذي يفصلُ الحارتين عن بعضهما بعضا  ، وهو أوّل درجات البرزخ بين الهجرة والعودة  ،الهجرة من فلسطين أو العودة إليها  ،فإما يعود المهاجرُ ميْتَاً أو شهيداً  ، ميْتَاً وهو يندسُّ في أحلام اليقظة  ، وشهيداً على ترابها بعد أن يكون قد اخترق حاجز الوهم والخوف والرعب .

  هل ترى هذه الغبطة التي تلاحق أبناء وبنات الحارة السفليّة ؟

_ سلطان الأعرج يرقد هنا

_ لم يعرف من الدنيا شيئاً

_ سلطان كان أكثر وعياً منّا جميعاً  ، لأنه لم يعقر زيتونة في حياتهِ  ، الشيء الوحيد الذي كان يريح أعصابه  ، هو أن يعصر حبّة زيتونٍ على جبينه المتجعد.

_ كأنك لم تحسّ أو تلمس عفاريت الجن وهي تتقافز من بين عينيهِ.

_ سلطان الأعرج كان دائم الحضور في غيبة الغياب  وانتشار الجراد  ، كان منفتحاً على عوالم أكثر أمناً من هذا العالم الافتراضي  ، لم يمت كما يموت الآخرون  ، لهذا سيعود  ، ربما ذهب ليتقصّى خبراً ما عن مجرى الأرجوان الفلسطيني

  الشائعات التي انطلقت كالنار في الهشيم حول عودة سلطان الأعرج  ،أصبحتْ من مفردات الأعراس والحزن  ،من مفردات الأسئلة التي يقذفها التلاميذ في وجوه المعلمين في مدارس الوكالة  ، وأصبحت أيضاً من مفردات انكشاف العباءة بين الكاشف ودرّاقة  ، والواصف والأرملة أرجوانه  ، لم تعد سيرةٌ ما تطغى عليها  ، حتى أن أهل الصفوة من الحارة العلوية تناولوها في الجاهة التي وفدتْ على أهل بيت أرجوانه  لخطبتها للمكوجي ابن السراج القائم بأعمال الصباغة والكي

_ لا يجوز أن تبقين بلا زواج  ، غداً تكبر ابنتاك وتذهب كلّ واحدة إلى بيت زوجها

_ أنت أرملة والعين عليك مفتحة

_ لا توجد للمرأة غير بيت زوجها

_ ظل رجل ولا المهانة  ، والخدمة في بيت الأخوة

_ غداً عندما تكبرين تجدين من يرعاك

  الكلام لم يقع في ميزان أرجوانه  ، لا لأنها تريد أن ترعى ابنتيها فقط  ، إنما لتلك العلاقة الجارفة بينها

وبين الواصف  ، وتخشى إذا ما تزوّجتْ أن يلاحقها في بيت زوجها  ، وعندها ينكشف المستور  ، وربما

يقتلها أخوها إذا علم بالأمر  ، وهو الشابُ المتهوّر الذي لا يتورّع عن فعل أيّ شيء.

  بعد ثلاث جاهات متعاقبة في ظرف أسبوعين  ، وبعدما غلبها حديث النسوة  ، وبعد أن تأكّدت واطمأنتْ للواصف بأنه سينسى أمرها  ، وبعد أن طاوعت صدى جمرة الشيخوخة   ،وبعد أن هدأ بالها تجاه طفلتيها  ، وقد تكفّلت خالتها ظريفة بتربيتهما قبلتْ أرجوانه بالمكوجي ابن السراج .

  هدأ كلُّ شيء إذن يا الواصف  ، وأصبحت الطريق سالكة أمام المهندس  ، ليقتحم خلوتك  ، ولا مناص من التقرب من بيت الشيخ أبي المنقذ الذي سمعه في عزاء زوج أرجوانه يقول :

_ سبحان مقلّب الأحوال  ، ولا يبقى على حاله إلا هو وسبحان الحيّ الذي لا يموت

   عدنان ابن المهندس كثيراً ما كان يتردّد على بستان الواصف  ، أحياناً لقطف بعض الثمار التي سمح له بها الواصف دون غيره من الصبية _  ، ربما كان ذلك من النتائج في رؤية قصيدة المهندس  ، أو ربما شفقة عليهِ بسبب ذراعه المبتورة  ،_ وأحيان أخرى لصيد العصافير التي كانت تعشش على أشجار البرتقال والزيتون  ، بالإضافة إلى هوس عدنان بتلك الأرجوحة الخشبية في وسط البستان

_ حاذر أن تقع

_ ذهبت اليد اليسرى يا عماه " كان ينادي الواصف بهذا اللقب " ولم يبق شيء آسف عليه

_ ما زلتَ صبياً  ، وأمامك الحياة بكاملها  ، حياة تستقي مفرداتها من أبيك  ، وهو الذي أرضعك حليب القوة  ، ولبن المغامرة  ، الحياة جسد المغامرة وبرقعه الساحر.

  لغة الواصف في كثير من الأوقات رغم عبثيتهِ كانت تتقاطع مع لغة المهندس  ، اللغة الواقعية المتخيّلة  ولكن لغة القصيدة كانت في فضاءات الواصف ضرباً من المستحيل  ،

  أيعقلُ أن لا يترك فيك أثراً ذلك الجسد الأرجوانيّ النحيل  ، وهل من الممكن أن لا يعاودك لسع النحل وأنت تقطف ياسمينة الحياة  ، أم هي المعطيات التي سيقتْ إلى متن قصيدة المهندس

  أرى جسداً   ، وأفضي للحياة بأوّل الممشى

لأقطف ثمرة الأمل الوحيد

لي أن ألمَّ حصاة نفسي   ، واثقاً من حال مرآتي الجديد

في كلِّ ما كَنَزَتْ يداي من السؤالِ

حجامةً جهريّةً  ، سكبتْ دمي

سرّاً إلى القدر السعيد

لي أن أقيم الماء في فود القصيدةِ

رافعاً حجراً إلى الزمن البعيد

  طار سرب الحمائم البيض من بيت أبي الوداد  ، في مستنزل الضحى يسعى  ، ويعودُ في متناول الغسق كلّ يوم يفردُ شهوته للطيران  ، ويشكّل لوحةً تجريدية  ، لا يتقن فكّ رموزها إلا أبا الوداد الخبير بهديلها  ، وإحجامها عن الاقتراب من منزل الكاشف  ، ألِلأنّ

الكاشف لا يترك شيئاً إلا قام إليه  ، سعياً  ، أم لأنَّ صوت المطحنة يعكر صفوها  ، ويغطي على هديلها كأنها كانت تترنم بنسائم البلاد  ، وتشاهدها من علٍّ.

طار سرب الحمام في هذا الصباح الرمادي  ، لكنه لم يشكل لوحته التجريدية كالمعتاد في فضاء الحارة السفليّة  ، كأنّ صِبْيَة الحارة الذين اعتادوا أن يصوّبوا الحجارة على جسد سلطان الأعرج المتهدّل  ، لم يجدوا بعد موتهِ سوى سرب حماماتِ أبي الوداد  ، وعادتْ برياشها البيضاء الممسوحة بنقاط رمادية إلى بيتها مخضّبةً بقليلٍ من الأحمر الأرجواني  ، مما حدا بأبي الوداد أن يغلق عليهنّ باب الشوك الحديد  ، خشية إفراط .

 


إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x