البيت الأول

 

   بدأت القصيدة  ،وأخذت اللغة زخرفها  ،وَنَمَتْ أعصاب الطريق المؤدية إلى بيت رجب   ، وبدأ الناس يتساءلون عن العلاقة التي تربط رجب مع تلميذه سلوم وعن تلك الساعات الطويلة التي يقضيها في بستان الواصف .

_ يا جماعة في الأمر لغز ما محير  ، رجب طيلة حياته لا يطيق الواصف ولا يسمح للتلاميذ أن يدخلوا بيته.

_ إذن ما هي قصة سلوم الذي يتردد على بيت رجب كلّ صباح ؟

_ وما هي قصة السهر في بستان الواصف حتى صياح الديك ؟

  أسئلة طاغية تتشابك في الحارة السفليّة   ، وكأنّ أجندتها لم تعد في أوراقها الصفراء سوى هذه العلاقة الفجائية   ، أو الطارئة على حياة رجب   ، الأستاذ الذي لم ترقب عينهُ غير بيتهِ وبيت أبي المنقذ   ،

_ أمس رأيت سلوم يخرج من بيت رجب وفي يده رزمة من الأوراق 

_ ربما تكون أوراق امتحانات التلاميذ يا رجل

_ ولكن العام الدراسي في بدايته

    ضرب الأخماس بالأسداس من مفردات الحارة السفلية   ، وهي حالة ميتافيزيقية يعيشها الصغير قبل الكبير   ، رجالاً ونساءً   ، شباباً وأطفالاً   ، وما زالت الحارة تذكر قصة سلطان الأعرج مع الفتاة التي جاءت مع أهلها إلى المنطقة السهلية   ، بحثاً عن المرعى   ، كانت النساء يحلفن بالله العظيم أنهنّ شاهدن الأعرج يحتفل معها على أنغام الفجر   ، قرب مطحنة الكاشف   ، أما الرجال فكانوا أكثر جرأة على ضرب الأخماس بالأسداس   ، إذ كانوا يقولون بأنهم شاهدوهما معا في الكهف الشرقي   ، ولا يسترهما ورقة توت   ،والشباب والأطفال كانوا حياديين   ، حيث قالوا بأنهم شاهدوا الأعرج فقط يقبلها خلف دكان أبي الوداد   ،حتى أهل الصفوة من الحارة العلوية   ، أردوا أن يروا هذا العجب الأهوج من سلطان الأعرج   ، فاقتصّوا أثره  ولم يجدوا إلا كأس حليب على شفتيه.   

والأستاذ رجب صاحب القصيدة المزجاة من لدن رحم القضية   ، كثيراً ما كان يقول   ،

_ المسألة يا جماعة  ، لا تتعدى الكرم والنخوة والشهامة والشفقة

  ولا حياة لمن تنادي   ، فالسراج الجمعي لأهل الحارة السفلية  خافت البصير   ، ولا يريد أن يضاء بزيت الحقيقة   ، وربما كان هذا تعويضاً بائساً عن حالة

 

التشرد والضياع والعوز    ، لهذا بعد موت الأعرج   ، أصبح الأستاذ رجب محطّ اهتمام العيون الموشّحة بسواد الاختناق والضيق .

  الرزم الورقيّة التي كان يخرج بها سلوم من بيت الأستاذ رجب   ، إلى جانب أنها كانت تثير فضول الناس   ، كانت تزلزل الحارة   ، بعد صلاة الفجر   ، فكيف لهم أن يفهموا مطلع القصيدةِ .

ثوى قبرنا تحت أرض يباس

فنام النهار هنا وهناك

فكونوا كما حزمة من عصيٍّ

بقبضة فارس

يعود التراب على ما بهِ من حواس

   لم يكن رجب يريد من المطلع مخاطبة العاطفة   ، إنما كان يسعى إلى حشد القوى الداخلية   ، من أجل تطهير الذات من شبكة اللجوء   ، فاللجوء كان الإيقاع المتفجر في النفس   ، لهذا كان يسعى أهل الحارة   ، إلى الانشغال بالأمور السطحية   ، في محاولة للنسيان  أو التمظهر حول قيمة النسيان   ، فكانت لعبة النرد   ، وضرب الأخماس بالأسداس   ، من مفاتيح النسيان   ، لذلك كانت أولى مقومات البحث عن تطهير الذات عند الأستاذ رجب   ، هي كسر حدة التوتر   ، وبثّ روح الرؤى   ، سعياً لتفكيك الداخل النفسي   ، وإعادة ترميمه من جديد   ، وسلوم والواصف هما المحرك الذي رأى فيه رجب   ، القدرة على متابعة هذه الأيقونات   ، وإثارتها لجملة التساؤلات   ، حيث الحراك الشبابي الذي يمثله سلوم المشاكس والمتفتح على الإيقاعات اليومية   ، وهو الذي لم يتصل بالقصيدة   ، إلا من خلال القراءة   ، وحراك الواصف الذي يعتمد على نبش الأيام الخوالي  وإمكانية عودة الظل للنور  وهو الذي رأى انكشاف الحال على الأحوال   ، حال القصيدة   ، وأحوال اللغة.  

 


إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x