القصيدة

 

  رزم الأوراق التي كان يخرجها سلوم من بيت الأستاذ رجب  لم يكن على بياضها سوى كلاماً عادياً   ، نثراً لقصيدة لم تولد بعد   ، جسداً مغناطيسياً لعلامات الدهشة والحيرة والتنقيب والبحث   ، لم تكن ثمة علامة تثير أو تستدعي للتندر   بعد أن سقطتْ إحدى الأوراق من سلوم   ، وقرأها الكاشف .

_ يا جماعة هذه الأوراق فيها كلام عن فن الطبخ  ، وأخبار عن أغنية أم كلثوم الجديدة.

  في بستان الواصف  ،كان سلوم يلتقي بكفاح المازني الرجل الطويل كنخلة  ،والهادئ كإعصار ما زال في رحم أمه الريح  ،والغامض مثل قشرة ليمون تحت التراب الحديدي  ،ليعطيه رزم الأوراق  ،وما كان على المازني إلا أن يقرأ الأوراق مرة  ،مرتين  ،وثلاثة  ،ثم يمزقها ويحرقها وكان هذا الفعل يثير استغراب واستهجان الواصف.

_ يا أخي لا أرك تحتفظ بورقة واحدة  ، ما هي القصة تقرؤها وتمزّقها

_ نعم هذه أوراق يكتبها الأستاذ رجب  ، حتى نقرأها ونمزّقها  ، ولكن علينا أن نعي كلّ حرف فيها  

  تململ الواصف حنقاً   ، ظناً منه أن كفاح المازني يستخف بعقله   ، وتحرّكت في داخله كلّ مفردات العبثية   ، ولولا أن تدارك المازني الأمر   ، لانقلب السحر على الساحر

_ يا أخي  ، هذه الأوراق يجب أن لا تقع بيد حراس الحارة العلوية  ، لهذا أقرأها وأمزّقها بعد أن أكون قد عرفت مسالك أفكارها.

  هل تسرّعت يا كفاح المازني بإفشاء مطلع القصيدة للواصف   ، وهو ما زال في متون اللغة البسيطة   ، أم أنك تصرّفتَ بحكمة الرجل الذي خَبُرَ الرجال   ، وقدّرت منسوب ردة فعل الواصف   ، فأطلقت إشارتك الأولى   ، والتي خبّأها رجب سنوات طويلة.

  هل كنت تقصد أن تصيب عصفورين بحجر واحد أن ترى مدى قدرة الواصف على كتمان السر  ، _وما السر الذي أفشيتَ بالثقيل_ وأن ترى مدى تحمّل الواصف للصدمات  ، وكيف يتصرف حيال ذلك        

     في الورقة التي لم تحترق كاملاً   ، ثمة خطّ أسود موشّى بالرمادي   ، التقطه الواصف   ، ونظر نظرة خاطت المسافة بين بستانه وبيت رجب   ،فرأى سلطان الأعرج في الخطّ   ، انتفض   ، أغمض عينيه قليلاً   ، لعلّ الرمادي هو الموشّى بالسواد   ، وهو اللاقط لغباش الصورة   ، ارتجف   ، واهتزّ   ، ورمى الورقة التي لم تحترق كاملاً على العشب الأخضر المنسرح أمام المازني   ، صائحاً : الأعرج   ، الأعرج

  عندما أخبر سلوم الأستاذ رجب بقصة الرمادي الموشّى بالسواد  ،وتخيّل الواصف للأعرج على بقايا الخط  ،استرخى رجب على أريكته القشيّة  ،ورأى في ذلك خروج القصيدة من رحم المتخيّل  ،وبداية التمظهر حول تداخل الشخوص  ،وانتقال الأدوار وتبادلها  ،ورأى أيضاً في ذلك مفتاحاً لأوّل الأبواب صعوبةً.

    في بيت أبي المنقذ   ، التقى المهندس مع الواصف وهي المرة الأولى التي تجمعهما معا في هذا البيت  الذي كان ينعته الواصف ببيت الأحلام   ، التقيا من أجل البحث عن الرمز  ،رمز القصيدة الذي ستدور حوله ومعه وفيه القصيدة  ،لم يتسيّد المهندس اللقاء  ،كعادته   ، يحبُّ الاستماع   ، ولا يتكلّم إلا بالمحسوس   ، وحينما يناقش أو يحاور   ، لا يستخدم إلا المفردات الأولى للكلام   ، ودائماً يترك النهايات مفتوحة للتلقي والتأويل 

_ ليكن مفتاح البيت  ، هذا الطوق المشدود إلى الأعناق المخبأة في السراويل العتيقة

_ إذن أنت تسعى إلى حصر المهمة بأجيال النكبة

ارتقى رجب فوق أنفاس الكلام الذي صدر عن الواصف   ، واستدرك

_ هي حومة الرمز   ، إذا حام فيها جيل النكبة   ، تبعتهم الأجيال اللاحقة

   وأضاف أبو المنقذ

_ إذا استطعنا أن نضع خيط الدم في حلقة المفتاح  ، صار طوقاً في أعناق أبنائنا وبناتنا

  وضع رجب يده على كتف الواصف مطمئناً

_ المهم أن نبدأ بأوعية الرمز  ، ثم ننطلق باتجاه مجرى الحدث.

  أولى تجليات نفض الغبار عن كاهل الواصف  ،هي أن يدخل في دائرة الفكر  ،وأن ينزع عنه ستار العبثية  وهذه كانت من المهمات التي أخذها على عاتقه أبو المنقذ   ، من خلال محاورات الذات التي وضعها نصب عينيه

_ ما هي أخبار التين والزيتون ؟

  التفت الواصف إلى أبي المنقذ   ، وقد كان مشدوداً إلى ذلك السراج المعلّق في الناحية الجنوبية من النافذة  انتبه أبو المنقذ لهذه الصفة التأملية وقال

_ هذا الشيء الوحيد الذي أخرجته من بيتي عندما هاجرنا  ، ومن ذلك الوقت  ، وأنا أخاف عليه كما أخاف على ذاكرتي  ، أتعرف لماذا ؟ لأنّ الطريق الذي يفضي إلى الذاكرة يجب أن يكون مضاءً  ، وخاصة عندما تحيط بك الملمّات والنكبات

  عدّل الواصف من جلسته  ، وبدا كما لو أنّ صاعقة من كهرباء الحضور نزلت على كيانه  ، وقال بتروٍ ملحوظ

_ يا سيدي هذا الكلام ربما يكون أكبر مني  ، ولكنني أرى أنّ التين في حالة نضوج تام  ، والزيتون موشّح بالزيت ظاهره وباطنه  ، ولكن أرى أنّ موعد القطاف ما زال باكراً.  

  ابتسم رجب   ، وشدّد على الجملة الأخيرة

_ نعم ما زال القطاف باكراً  ، ولكن أرى أن ذاكرتك مجبولة على استيعاب الرمز.  

   وزاد أبو المنقذ على كلام رجب

_ ظاهره وباطنه

 

 

إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x