الأنوار العلوية

 

  سلطان الأعرج  ، ينحدرُ من عائلة ريفية  ، كما هو حال رجب  ، ولا يروق له إلا أن يجلس في الحقول القمحية  ، أو تحت أشجار الزيتون  ، وكثيراً ما أبدى انزعاجاً منه الواصف  ، ظناً منه بأنه يجلب الخراب والدمار  ، وربما يكون مآل ذلك الاعتقاد  ، إلى تلك السمة التي تبرز في محياه عندما يغضب  ، وكثير من أهل الحارة السفليّة يعتقدون بأنه ممسوس بالجن  ، ولم يكن أحد يطيق الأعرج إلا اثنان  ، المهندس وأبو المنقذ  فهو مع كلّ ما فيه  من هيجان الذات يبقى ابن الهجرة على حدّ تعبيرهما  ، كثيراً ما كان يسترق السمع إلى حضرة أبي المنقذ  ، من خلف النافذة التي كان يغطيها

شوال الخيش  ، ولم ينتبه له أحد _ وهو الذي لم يغب عن حضرة واحدة _  ، إلا عندما خرَّ مغشياً عليه بعد أن شاهد الأنوار العلوية تتنزّل على بيت أبي المنقذ  ، لم يقل هذا  ، ولم يسمعه أحد يقول  ، ولم يقل أبو المنقذ  ولا المهندس  ، ولكنّ انعكاس الظلّ النوراني على جسده النحيل  ، أوحى بذلك عندما وارووه التراب في مقبرة الحارة السفليّة  ، القريبة من تلّ البوادي .

  في الحضرة التي تلتْ موت سلطان الأعرج  ، حدّث الشيخُ أبو المنقذ مريديه عن إمكانية عودة الأعرج إلى الحارة  ، ولكن المهمهة والتمتمة جعلت الشيخ يتنبه لنقطةٍ هامة  ، وهي أنّ معادلة الفاعل والمفعول لم تكتمل عناصرها في قلوب المريدين  ، لهذا مال على المهندس هامساً :

_ ما كان لي أن أقول ذلك

   تدارك المهندس الأمر  ، وبعد أن أثنى على كلام الشيخ قال:

_ شيخنا يقصدُ عودته في الرؤى  ،والرؤى ثوب الحقيقة وميدانها الفاعل  ،

   بلاغة القول كثيراً ما تشفع لصاحبها خطأ التعبير وأحياناً تستردّ المغايرة من الحقيقة في صفة واحدة هي الإقناع.

   أن تبني فصلاً أو جزءاً من فصل روائي لشخصية لم تنمو بعد  ،ثم تغيّبها  ،يثير كثيراً من علامات الاستفهام حول أهميتها  ،ولماذا زجَّ بها في متن الرواية  ،ولكنّ الراوي في مثل هذه الحالات  ،لا يريد منها سوى أن تكون كموطن الشفق الفاصل بين النور والعتمة  ،أو كالتصاق غيمتين في لحظات هبوب الرياح  ،إذن لم تكن شخصية الأعرج عبثية مقطوعة الوصل عند المهندس   ،وأبي المنقذ  ،ولكنها فيما عداهم غيمة صيف عابرة لا جدوى منها  ،الأعرج إذن في متن الرواية الغائب  ،هو الخيط الرفيع الذي يستندُ عليه المهندس في حلقات رؤيا القصيدة  ،أو الحلقات السريّة فيما بعد  ، أو لالتقاط فاكهة درّاقة من وراء حُجُب  ،ولا يعرف نوع هذا الخيط سوى أبي المنقذ شيخ المهندس

  ما بين تربة الزيتون  ، والمجرى الهوائي للكهوف التي كان يختلي بها المهندس  ، ثمة طريق متعرج  ، لا يقودُ الآخرين إلاّ للجبل الذي يقابل جبل الشيخ  ، فمن أين لك كلَّ هذا الحدس أيها المهندس  ، لتعرف المعابر الخفيّة للكهوف  ، ربما يعرفها غيرك  ، ولكن حكايات الضباع والجن والرعب الداخلي باعدتْ بين الناس والكهوف  ، فلم يعد لها وجود في ذاكرتهم الفردية والجمعية  ، أو هكذا أقنعوا أنفسهم  ، خشية إملاق .

_ من أين أبدأ ؟

   سؤالٌ يقدم النتائج على معطيات الحركة  ، تلك المعطيات التي كان المهندس يهيكل معالمها  ، أيبدأ من ابنه عدنان  ، الشاب الذي فقد يده اليسرى  ، بعد أن سقط عن شجرة اللوز  ، وبعد أن أخطأ الطبيبُ في إعطائه جرعة زائدة من الأمل  ، أم يبدأ من الكاشف وهو يعلم حقيقة المتغيرات التي تطرأ في كلّ لحظة على عباءته المطرزة بخيط أندلسي  ،أم من الواصف  ويهادنه في عبثيته  ، والوسيلة تبرر الغاية  ،أم من دراقة  وهي ما تزال تعبر خطّ الانكشاف على أبجدية الكاشف الجافة بالنسبة له  ، والقادرة على استدراج النحل بالنسبة لها  ،أم من أبي الوداد الذي يتوكأ على عكازه من فرط الألم الذي يحتل مساحة واسعة من ظهره  ، بعد أن فقد أهله في زمن الطوفان

   من أين يبدأ سؤال يقدم النتائج على المعطيات  ، وربما يقول الراوي  ، لماذا لا يبدأ من أبي المنقذ وهو

شيخه  ، وحافظ سرّه  ، والقائم على ذلك الخيط الرفيع الذي يتجلّى في عودة سلطان الأعرج.

قال رجب في خلوته الكهفيّة

_ أبو المنقذ هو من النتائج  ،وليس من المعطيات

ويجب أن يبقى بعيداً عن متتاليات الزمن

   قادته هذه الفكرة إلى معاينة الواقع ألذكوري في الحارة السفليّة  ،وفي حلقات الشيخ إلى تقصّي الرؤى التي يقصّها المريدون على أبي المنقذ  ،لهذا استدعى كلّ طاقتهِ الشعرية لغايات فتح باب التأويل _ مستأذناً بذلك _ بعد أن رأى الشيخ فيه علامات الإيصال والاتصال الحسّي والمادي والمعنوي


إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x