القوسُ الذي شذّبَهُ المهندس بعد أن خلع الخاتم من أصبعهِ ، صار رفيقهُ
، ومآل خطاه ، وعصاه التي يتوكأ
عليها ، وله فيها مآرب أخرى ، القوس هو الحكاية التي تلوحُ في مخيّلة القصيدة ، التي بدأها المهندس منذ أن اكتشف مرارة الحصى
في المرارة ، ومنذ أن رأى في منامه ما
يزعج الصقر في انقضاضه ، رأى حجراً
مستتراً خلف حراك الكاشف ، حجراً أندلسيّا ، ينشقُّ إلى نصفين ، نصفٌ أرجوانيُّ القطع ونصفٌ مُضبّب ، وما مزيج الأحمر والرمادي إلا بداية المسألة ، مسألة تشقّق القدمين المنتفخين لانزلاق
الجوارب عن حاجة الخطى ، حجراً يقبضُ على
بلور المنفى ، والكاشفُ في نصفيْ الحجر
الأندلسي ، تتفصّد عن لحمهِ ذاكرة السيرة
.
_ أبي ، هل أنت بخير ؟
_ ما الحكاية ؟
_ لماذا كنتَ تمسك
وأنت نائم بسروالك ، وتصرخ ، كاشف؟
_ لا شيْ ، أنها الكوابيس
لم يدرِ المهندس ، بأنه إلى جانب اسم الكاشف الذي كان يردّده ، كان يردّد حجر ، ولو كان يدر لما قال لابنهِ الكوابيس ، لأن الكاشف والحجر هما معادلة ربما كانت
بحاجة إلى إجابة لكي يتسنّى لابنه معرفة عناصرها عن بُعد.
_ والحجر يا أبي
_ حجر النرد
_ أيّ حجر هذا الذي
يوقدُ فيك الحيرة والعرق ،ويجعلك تصرخ
كاشف حجر كاشف حجر فطن المهندس بأن ضلعاً ما من أضلاع مثلث الرؤيا قد تسرّب إلى
ابنه ، فقال مستدركاً ، خشية انفلات بؤرة القصيدة من يد الخفاء ، ولو كان هذا التسرّب لأقرب الناس ، لذلك كان لا بدّ من الحكمة في الإجابة بحيث لا تنزلق غيمة الصيف عن أهدافها الظليّة
_ بالأمس رأيتُ
الكاشف مع أهل الصفوة يلعبون النرد تحت شجرة الكستناء.
أحسَّ الابن بأنّ أباه يحاول التهرب ، ربما ثمة أمر لم يحن له أن يسأل عنه ، لهذا ترك الإجابة للزمن وقال في محاولة
لتغيير مجرى الحديث
_ نسيتُ بأن أقول لك
بأن أبا المنقذ ، يدعوك الليلة لحضور حلقة
الذكر في بيته.
أبو المنقذ من طبائع سيرته كما يقول المهندس ، إنه لا يتكلّم كثيراً في شؤون العالم
الافتراضي ، إلا إذا طفح الكيل ، وخاصة عندما تحكمه الظروف وتجبره إلى الجلوس
مع أهل الصفوة ، وهذا قليل ما يحدث ، غير أن أبا المنقذ لهُ من اللسان الباطني ما
تنوء به الجبال ، الحضرة ، أو حلقة الذكر ، وانسجام ظواهر الأمور مع بواطنها ، والاكتفاء بالفعل محرّكاً فاعلاً والالتصاق
الكهرو مغناطيسي بآليات القول واشتقاق المعرفة
،واقتناص لحظات الصفاء ، لإدراك
الأبعاد الخفيّة للكون والملكوت ،
والحسابات الدقيقة وانكشافها على مرونة التلقي هي غيض من فيض أبي المنقذ.
لم يذكر المهندس يوماً بـأنه تغيّبَ عن حلقات
أبي المنقذ ، ولو كان الأمر يستدعي وجوداً
قريباً من بيت درّاقة ، _ خاصة في مساءات
الشتاء ، حيث يتجمع الناس في منازلهم
وخيامهم حول صوبة الكاز ، من شدة البرودة
الليلية _ ليرى ما الكاشف فاعل في هذه اللحظات
، والكاشفُ بطبيعتهِ الخفيّة يستغلُ مثل هذه الأوقات ، ودراقة تراها ستراً لحيويتها وشعرة تبقيها
لمكابدات الزمن .
دائماً تشير الساعة إلى الثامنة ليلاً ، عندما تبدأ دائرة الكون بالاتساع لتشمل فضاء
الملكوت ، ودائماً كان أبو المنقذ يضع
أمامه في هذه الساعة أوراقه الصفراء ولا يعلم أحدٌ من أين جاء بها ، ولكن التقوّلات التي كثيراً ما تدور بين
الخاصة ، تشير إلى أنه ورثها عن جده
الجيلاني .
بعد المكابدات التي عانى منها المهندس في
بدايات التزامه مع أبي المنقذ ، وبعد
الفتوحات التي جاءته من اللطيف الخبير وبعد أن أصبح يمسك قطبيْ المعرفة والذوق ، وبعد أن شهد له أبو المنقذ في رؤيته له ، أنه رآه يدخل في باب المعيّة ، قرّبه منه إلى حدِّ أن الحضرة أو حلقة الذكر
لم تعد تقام إلا بوجوده ، وإن حدث أنه في
شغلٍ شاغل ، أو في مقام سائل ، كان أبو المنقذ يؤجّل الحضرة أو حلقة الذكر
وكثيراً ما كان الكاشفُ يثير جلبة الأسئلة حول ذلك ، مما حدا بأبي المنقذ أن يقول له : كفّ عن هذا
الفساد ، وإلا لا حاجة لنا بك ،
ولكن الكاشف القادر على استثمار المواقف قال
لأبي المنقذ بلهجة الاستفزاز: أتطردني من
العالم الذي هو ليس لي أو لك.
عندئذٍ ، لم يعد للكاشف وجوداً في حضرة أبي المنقذ ، وصار ينعتُ جلسات أبي المنقذ بالدروشة
خاصة حينما كان يفتح
باب النميمة عليهم في حضرة أهل الصفوة وهم يلعبون النرد
0 Comments: