صراع الديكة

 

   مسألة وقت التي كانت تحبسُ أنفاس الطيور البريّة  " وهناك طيورٌ مُدجّنة " لم تعد وسيلة لإقناع أهل الحارة السفليّة   ، لمطاردة النوارس المهاجرة   ،إذ سرعان ما تحوّل الكلامُ من لغة الخطاب _ أيضاً على حدّ تعبير المهندس _  ، إلى لغة الحركة  ، وكما كان يقولُ الواصفُ "في الحركة بَرَكة"

   إذن لم تعد السيقان المكشوفة غير رمز أسطوريٍّ بات البحثُ عن ثيمتهِ واكتشاف سيمياء دلالتهِ  ، ملجأ الكثير من سكان الحارة السفليّة  ، وهم يسترخون على الطريق العشبي بعد فصلٍ من مماحكة النرد ليلاً  ، واختراق القصب من أجل البحث عن دودة الفخ كما كان يسمّيها نعمان الكاشف نهاراً  ، إذن لم تعد إلا رغبة في الإصغاء لحساسية الصفيح الذي عقدتهُ تربة الغربة.

   دُرّاقة _ أو كما كان يسمّيها أهل الحارة السفليّة " دُر" لانعكاس الأشعة تحت الحمراء عن خديها  ، وانعكاس الرؤيا عن سريرتها في طلّتها الصباحية_  وبعد أن أتقنتْ أنوثتها تماماً من خلال الخطاب البنفسجي  ،أصبحتْ جملةً من الإعصار الزمني الذي لا تحدّدهُ كلُّ مقاييس ولغة المهندس  ،فهي وإن خمدتْ نيران جرأتها  ،وجفّتْ عيدان الكبريت في أعصابها  ، إلا أنها ما تزال قادرة على احتواء أهل الصفوة من أُولي الأمر  ،وهذا ما جعل نعمان الكاشف أن يترجل عن وقار منزلته من أهل الصفوة  ، وهو الرجل الستيني الذي خاض المعارك مع عزّ الدين القسام .

   لم تكن دُرّاقة تعلم بحقيقة المهندس وما يخفي بين أبيات قصيدتهِ الكونية  ، ولغموضهِ الشديد في حضرتها  وتقلّبات حواريتهُ معها  ، وهما يسبحان في الطريق ألشكي  ، ورغم تحذيره الشديد وبلهجة الآمر أو الوصي لها  ، بأن لا تدخل في الجُحْر الذي حفره أهل الحارة العلويّة  ، إلا أنها وربما من قبيل المماحكة   ،أو المغايرة دخلتْ الجُحر  ، ولبست تنورة المينوجُب .

  كظم المهندس غيظهُ  ، وانبرى في البيت الأوّل من قصيدته  ، يبحث عن ممر آمنٍ لها  ، غير أنّ سرعة التحوّل في حياة دراقة   ، جعلته يقفز إلى البيت الثاني  وينطلق باتجاه طائر الوعد الذي نسيهُ لفترة من الزمن وهو يراقب نمو وأنفاس وحركات دراقة .

  كظم المهندس غيظهُ حين رآها تفتحُ نافذة البيت  ، لم يكن الصِبْيَة يلعبون  ، ولا الفتيات المقبلات على عدِّ الخطى يلعبن  ، ولم يكن ثمّة عرسٌ في الحارة  ، وما كان سلطان الأعرج يعرج هرباً من قذائف حجارة الأطفال  ، وسلطان الأعرج هذا ليس أعرج  ، ولكن أصابتهُ لوثةُ العقلِ بمفرداتها  ، فأضحى يثيرُ ما في الطفولة من عبثية المنطق  ، ويثير في الرجال كهربة الحواس  ، ليس خوفاً  ، ولكن خشية من انقلاب السحر على الساحر كما يقال في المثل  ، لم يكن ثمة أمر لافت  ، فلماذا تضعُ يدها على خدّها الزئبقي المخاتل ؟ ولماذا هذا الانكسار والحيرة والترقب في العيون الكستنائية  ، أسئلة خافتة لعاشقٍ لا يسلك الطرق العشبية .

  لم تكن عباءة نعمان الكاشف تخفى على أحد  ، ولو كان الظلام جاراً للظلام  ، ولم تكن طويّتُهُ تسعى إلى ملامسة الحديث  ، بل لممارسةِ التخفي والانصهار بالجسد الحريري  ، ربما لأنها كانت طويّةَ مقاتلٍ لم تهزمهُ الدروب بتعرجاتها  ، أو ربما لأنها كانت تصدرُ عن خبرة الكهوف  ، وإمكانية مغايرة توجّهات الذات قبل احتدام الصراع  ، مثلما تفعل الدِّيَكة في اقترابها من لحظة المواجهة  ، وعباءة الكاشف شفّافة مهفهفة  ، مطرزة بخيطٍ حريريٍّ قال إنه جاء بهِ خصيصاً من بلاد ألواق واق  ، وكثيراً ما كان يتندر عليه أبو المنقذ من هذه الحكاية  ، فأين هي ألواق واق في حساباتك يا نعمان الكاشف

  دقائق معدودة وتمرُّ الأخيلة أمام قصيدة المهندس  ، وتنكشف الصورة.

_ إذن هي لعبتك الأثيرية يا نعمان بعد أن تهدلت قامتك من تشابك الإسمنت والحديد            

وهي لعبة الذين فقئوا عينَ الشمس بعد أن ظنوا أن الكسوف دائم

وهي لعبة صراع الدّيَكة في المهرجان الروماني .

تبصرُ ريحُ التلِّ حرارة نعمان الكاشف  ،

وهو يجرُّ خطاه  ،

وحرارة دراقة  ، إذ يخفتُ تلُّ الرمان

تستمطر أوقات من لدن الغفلة  ،

والبابُ من القصب السكران

ما بين الحارة والحارة يولدُ طوفان

وعلى ذمّتِهِ البريةِ راح الإنسانُ

إلى ثقب الخزان

  بدأتْ أروقةٌ الحارة السفليّة تشرع منديل حرارتها  ، وبدأ كلُّ شيءٍ يندسُّ في جيب العابرين إلى منازلهم حيث الجلبة التي أصبحتْ من مفردات البكور الصباحي  ، والتقاطعات شديدة الخصوصيّة لحراك الناس  ، وبدأ كلُّ شيءٍ ينتظمُ في منفى الصفيح  ،

   هنا بالقرب من مدارس الوكالة منزلُ أبي منقذ ويشبه قطاراً بخاريّاً  ،تنتظم فيهِ الغرف في خطٍّ مستقيم       وتطلُّ جميعها على الكهف الذي شاع فيما مضى  ، بأنّه مأوى لحراك الجنِّ  ، ومأوى للسائرين إلى الهوى فجراً  ، ومأوى لسلطان الأعرج  ، وهناك في الزاوية الغربية من حبّة الزيت  ، تستقرّ بقالة الحاج أبي الوداد  ولا يعرف أحدٌ ما السبب وراء تسميتها ببقالة السعادة ربما كان في نفْس الحاج  ، محو آثار الهزائم المتتالية التي أصبحتْ تظهر على وجوه أهل الحارة السفليّة  ، وعند التقاء وادي القطا مع بستان الواصف  تربّعتْ مطحنة القطن الوحيدة في الحارتين والتي تشير اليافطة البيضاء المعلقة على شجر الزيتون بأنها ملك لنعمان الكاشف  ، وفي المقابل الوسطي لتلِّ البوادي  ، كان منزل المهندس  ، يحبسُ أنفاس الرياح الجنوبية  ، لشدة حرارة الحطب الذي لم تخمد ناره منذ أن التقى بدرّاقة.


إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x