مرايا الصمت

 


   في الواقع الذي لا بدَّ أن يمارس فيهِ وجوده  ، دخلَ الشّكُّ إليهِ وجوداً آخرَ  ، أقنعنهُ أنّ العالمَ في مهمتهِ الوجوديّة أشبهُ ما يكون بقرنيْ غزال  ، أو هكذا خيِّلَ إليهِ  ، وهو يدخلُ فيه

   هذا العالمُ الافتراضي طالما طوّحهُ على جناحيهِ  ، وهو يسيلُ من الكلمات  ، في بحر اللوحة التي نسيَ الرسّام أن يصبغَ إطارها باللون الرمادي

   العالمُ إذن لا كينونة في قفصه الصدري  ،ولا فضاء لذراعيهِ المنحدرين من أنا الأنا  ،وأنا الجمعي  ،فقط كلُّ

شيءٍ لهُ قابل للمماطلة والمماحكة والانكسار والتشظي وقابلٌ أيضاً كما يقولُ المهندس للانخفاض والسكون  ، والترجّل عن سرديتهِ المتقطّعة

المهندس صاحبُ الواقع المتصوّف

والمهندس الذي كان يتسلّلُ ليلاً  ، لكي يقطفَ حبّة الرُّمان من حديقة الصمت.

   كان العالمُ الافتراضي في الحارة السُّفليّة القريبة من تلِّ البوادي  ، يبدأ من نقطة التمحور حول طاولة النرد وكان الليلُ الذي يرتِّبُ أبناءهُ في غفلةٍ من الزمن  ، جاراً للصفوةِ من أُولي الأمر  ، هكذا كان يستقيمُ الخطُّ الفاصل بين ملحمتين  ، ملحمة النبوءة  وملحمة الاتصال بالمحسوس  ، ملحمة النبوءة التي فرد سيرتها المهندس  ، وملحمة المحسوس التي كان يعاقر أسطورتها في الحانةِ بعضُ أُولي الأمر .  

العالم الافتراضي إذن همزة انتقالية من تلاشي النبوءة  ونضوج المحسوس  ، لهذا تركتْ دُرّاقة بعضَ أصابعها بين البرزخ الفاصل بين الملحمتين   ،

انتظاراً لما سيؤولُ إليه الهاتفُ ألشكي الذي أصبح وجوداً آخرَ في هندسة المهندس المتصوّف .

في الحارة السفليّة دَمٌ

أوردةٌ من لحم الليل

وفضاءٌ _ قابَ القوسين _ يميلُ إلى غيمٍ

مسنودٍ بالخلوةِ

_ هل جاوزتَ الحدَّ الفاصل بين النهرين ؟

_ لم أتبع أثرَ الموج  ، وكانت لي مسحةُ ريحٍ

تغبطني حين أمرُّ على بابك ؟

_ أنتَ إذن منشغلٌ بالترتيب الأبديِّ ؟

_ منشغلٌ بدم الأوردة الأحمر  ،

وفضاء النرد  ،

وقطعان السّيْل ؟

    الحوار جزءٌ من صيرورة اللغة المتقاطعة بين المهندس المتصوّف ودُرّاقة  ، في اللقاءات القليلة التي كانت تجمعهما أمام وضوح المرآة  ، قبل أن تختلف اتجاهات البوصلة بينهما

    الخبر الذي تناولَهُ حرّاس الحارة السفليّة عن اللغة المتقاطعة بينهما  ، كان كالهشيم المنطوي على ذاتهِ في العالم الافتراضي  ، غير أنّ المهندس وبحنكة الذبذبة التي عاينها منذ أن التقى بدرّاقة  ، لم يأنس للمثلث الافتراضي  ، لهذا استمرَّ بمماحكةِ الذات  ، وتطويعها للحظة المواجهة  ، مواجهة المحسوس  ، والانتقال بها من فرضية العدم  ، إلى عدم الفرضية

  الزمن الستيني كان أكثر إجلاءً للمعنى  ، معنى أن تنظر بعينين اثنتين  ، وأنتَ تواجهُ رمادية المسكوت عنه  ، العين المنفتحة على بصيرة الشكل وانحيازه للقدرة الفاعلة في الترتيب الأبدي  ، والعين العالقة بين فضاءَين لهما نَفْس التركيب الأنزيمي

  والزمن الستيني أكثر إخفاءً للمثلث الافتراضي .

    حبّةُ زيتٍ من السّمك كانت تكفي ليرفع الناسُ أحلامهم باتجاه الشمس  ، أو هكذا خيِّلَ لدراقة وهيَ تحملُ مفردات الكهل الستيني  ، وكم كانت تجمحُ صاخبةً وهيَ تبلعها  ، درءً لعصابة الذبول التي كانت تحيط بأهل الحارة السفليّة .

    المفردات في كمائن الحارة العلوية المحشوّة بنمير القلق والتوتر والذهول  ،لا تفرك باطن كفيها في هذا الزمن الستيني القابض على جمر الأساطير إلا باللجوء إلى حواس الحشو  ،وهي بالرجوع الأثيري لفطنة الغزال الذي يدسّ قرنيه بالشجر الخريفي  ،لا تقبض إلا على لحاء طيّرته الرياح قبل اللقاح  ،وهي بذلك تعيش أزمة المجاورة والمحايثة للفعل المسبوق بسين السيف  ،لذلك لا بدّ لأنوثتها في الحياة أن تخرج عن ساق الكلمة المتورّط في التأويل

   لم تقرأ مثل المهندس مفردات العالم الافتراضي  ، لذلك كثيراً ما كانت تتجرّأ على مجابهة الانسياق وراء لهاثهِ وهي تقتربُ من ذلك الانحياز العشبي لقارعة  الطريق  ، في طريقها للقاء الكاشف  ، رغم أنه كثيراً ما أشار لها بأن تسلك الطريق ألشكي .

مُدّي حزامَكِ واتبعيني

وتشمّسي بدم الطيورِ

أعطيتُ حلْمَكِ باسطاً كفّيهِ

جمراً  ، وأغنيةً  ،

ومشواري مصيري

  إذن هيَ البنية التحتيّة للولوج في حضرة اللغة  ،وهيَ الخروج من الدائرة المغلقة  ، إلى دائرة المغناطيس الزئبقي الذي لا يتراخى تحت ضغط العالم الافتراضي وهيَ الأنا الجمعيّة في متناول الكلام والحضور والغياب .   

  البيتُ الذي لا وتد له في فراغات القصيدة  ،يقوم على قصب الذكرى  ، وحسيس الممكن في تفريغ طاقة الإمكان  ،يجمع في هيكله خطوط المستطيل  ،لا تقوم مرآته إلا على الجدران الطينية  ، الطين العبثي المتجذّر في كعب امرأةٍ لا تتقن إلا الهجرة من دمها باتجاه السؤال الرمادي  ،والطين الذي يشقق الأصابع المائية  ،ويرسم لوحة المشكاة على ثياب البناء الدرامي للقصيدة  ،والطين الذي يُدسُّ في جيوبه مفاتيح وأوراق ملكية الذات للذات  ، ولا تتحدّب المرآة إلا على الأبواب الخشبية التي تقرأ فضاءات الطيور  ،  الصفيح مائدة الأيدي إلى قراءة الغياب  ،وانتظار المطر  ،وهيئة الانفصال الجسدي  ،وديمومة الصوت والصدى

الأرصفة عتبة البيوت  ،وانشغال الذات بخطواتها نحو القرص المستطيل الذي أصبح مثل خبط عشواء يأوي إليهِ كلُّ سكان الحارة السفلية

 الحنفيّات الممهورات بأشكال العطش التموزي حكاية النساء اللواتي قطّعن أيديهنّ من برادة الحديد الأزلي الجامع الكبير المشرع لتلاوة الشهداء  ، والخيط المقدّس الذي يربط المفردات بقاموسها

\ والمهندس \ ودرّاقة \ والحاج أبو الوداد \ ونعمان الكاشف \ وسليم العنزي \ وكفاح المازني \ وسلمان أبو الحكم \ وسلوم  \ والشيخ أبو المنقذ \ والواصف \ كلّها كانت تستردُّ عافيتها من طقوس العودة \ عودة الذاكرة بعد أن أصابتها جلطة الهزائم \ ولكن ….؟

  إشكالية العالم الافتراضي هي أنكَ تتبع الواصف الذي تربّى على حليب الليل   ، وقلقلة الفجر  ، بعد جملةٍ من التناسخ الأنزيمي في الحارة العلويّة  ، والحارة العلويّة لا تبعد كثيراً عن جارتها السفليّة خطّيّاً إلا أنها في مفارقة اللغة على حدّ تعبير المهندس  ، تبعد سنة ضوئيّة أو أكثر.

بيننا ضلعان من غبار الكلام

سنةٌ ضوئيّةٌ أو أكثر  ،

وعلاماتٍ للرعيان  ،

وطقسٌ من شتاءٍ ساخن  ،

بيننا جملةٌ من مرايا الصمت  ،

وانشغال الحاضر بالترتيب الأبدي

بيننا أننا خارجان عن الكيمياء  ،

وفرضيّة الزمن

بيننا أننا قائمان بلا كفن

  فرضيّة الزمن هي التي جدعتْ أنف دُرّاقة ذات ضُحى  ، وختمتْ قراءة دستور النّفْس  ، وكوّنتْ جداراً صلباً من إسفلتِ اللغة بعد انحياز المهندس لظلال المعنى.  

_ هل أنت واثقٌ من ندمائكَ واحتباس المطر  ، وواثقٌ من أصابعكَ الضالعاتِ قدرةً واكتنازاً لماء الفكرة ؟

  قال لها وهو يحرِّكُ قليلاً من السُّكَّرِ في كأس الشاي _ واثقً من حضوري في الكلام  ، وحضوري في أبجديّة المعرفة  ، وواثقٌ من رماد الأسئلة في العالم الافتراضي

جلبتْ نفْسها من زاويةٍ أكثر حلزونيّة

_ إذن  ، هو النصُّ الكوني الذي ما انحنى للخريف

_  وما انحنى لتقلّبات الزمن.

 


إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x