مقاطع مِنْ سيرةِ الرُّضوان


الشاعر الراحل عبد الله رضوان
 

                                   إلى عبد الله رضوان

 

الآنَ يُرْبِكُني الرَّدى

ما كان قَبْلُ يَسوسُ أيامي

لأشهدَ نخلةَ الماضي

ولا وَرَقَ الخريفْ

الآنَ تُرْبِكُني الهَواتفُ

وهيَ تبكي يا حبيبي

يا أخي ورفيقَ ألْطافِ الصُّروفْ

الآنَ ليسَ الآنَ

ليس لِدَمْعَتي في الأرضِ أنْ تنمو

فقد أَلِفَتْ مَساراتي هواءَكَ

أين شاراتي

وكيفَ الحقلُ ينتظرُ الضُّيوفْ؟

سَأَعُدُّ لي بُنًّا صَباحيًا وأوراقًا

وأُنْجبُ في الطَّريقِ إليكَ مسألةً

لنرفعَ للحوارِ صَباحنا الورديَّ

-كم مِنْ ساعةٍ في الرّيحِ

أثقلَتِ الذُّنوبَ على الشّمالِ

وكم هَزَزْتَ على الطَّريقِ الدائريِّ يَدَ الكلامِ

وزهرةَ المعنى

لِتَنْسبَ حاجتي لجمالِكَ الأبويِّ؟

كمْ

وأتيتَ مُبْتَدِعًا حُروفَكَ مِنْ جَلالِ الأرجوانِ

وَصُغْتَ لي بحرَ الحروفْ؟

والآنَ منْ سَيُري حِبالي

حُجرةَ الصَّوتِ الأليفْ؟

 

الآنَ يُرْبِكُني الرَّدى

يا طَيرُ هل أَوْزَعْتَني أَلَمًا

وبُقْيا مِنْ سَوادِ العُمْرِ في هذا المضيقِ؟!

ألمْ أُرَدِّدْ ما ألِفتُ من الغوايةِ

حين كنتَ تُجيرُني

من خِرقةٍ في الرّوحِ

هل كان انفلاتُكَ عَنْ يميني

بعد هذا الانتظارِ دقيقةً

لأمرَّ وحدي في السَّلامِ على القصيدةِ

بينما لِتَكونَ أقربَ مِنْ ظِلال الأرضِ للصَّبّارِ؟!

الآنَ يُرْبِكُني الرَّدى

يا طَيرُ في هذا النهارِ

فَأَجِزْ مَجازَك في الرّحيلِ

وقل: سأرجعُ عَنْ مجازي حين ترثيني

وحين تدلُّ عليَّ أنصاري

وحين تردُّ للمعنى بناياتٍ هَطَلْنَ على الغُيوبِ

ألمْ أقلْ يومًا صديقي

جيرةُ المعنى مجازُكَ في الحُروبْ

هل كنتُ أَنْسُلُ فِقْهَ أيامي

لأدخلَ في العُروجِ إليكَ

أمْ لأَجُرَّ أزماني على وَجَعٍ قريبْ؟!

 

الآنَ يُرْبِكُني الرَّدى

فأَميلُ كُلَّ الميْلِ عَنْ لغتي

وأكتبُ بالدم الحرِّ المُصفَّى 

ليس لي أنْ أَبْتَني بيتًا

لأسكنَ بعد هذا القَيْظِ

بعد مرارةِ الفَقْدِ

افْتَقَدْنا أجملَ الشُّعراءِ

والإنسانَ فيكَ

وَمَوْئِلَ الأرضِ التي لم تَنْتَسِبْ لِسُيولها

في آخرِ اللحظاتِ حين تقابلَ البهلولُ

مَعْ كأسِ الكتابةِ في المراثي

 

الآنَ يُرْبِكُني الرَّدى

فأَمُرُّ بينَ صَحيفتينِ على المنازِلِ كُلِّها

لأرى البحار على الحقيقةِ سُجِّرَتْ

وأرى الرُّعاةَ كأنّهم يمضونَ نحو تكتُّلِ الأشياءِ

في هذا الزمانِ المُرِّ

إذ تمشي إليكَ جنازةٌ

لا نايَ يَرْقُبُها مِنَ الوَجَعِ الذي أسلَمْتَهُ

لغةً على مقياسِ هذا الاحتضار

وأرى الدِّيارَ تقودُ مِنْ حَزَنٍ عليكَ

نهايةَ الأشعارِ

وأرى البِذارَ تَحُطُّ في أرضٍ حَرَثْتَ سِياقَها

لِتَمُرَّ

أو لِيَمُرَّ كلُّ الناسِ في لُغةِ الطُّيورِ

إلى النهارِ

سَأَبْتني لي جانِبًا بالقُرْبِ مِنْ وعي الحُقولِ

وأبْتَني لي قريةً رعويّةً

لأصيرَ حارسَكَ الأمينْ

فالحقلُ يُوْغِلُ في الجنازةِ

كي يُرَتِّبَ حَرْثَهُ

سأمرُّ لو طَحنوا ثيابي

ثُمَّ حَطّوا نقْشَها في سلَّةِ الذكرى

سأعيدُ ترتيبَ الغوايةِ، مثلما

قد قلتَ لي:

هذا سبيلُكَ أيُّها النَّاجي

مِنَ الشَّفَقِ العليلْ

الآنَ يُرْبِكُني الرَّدى

وأنا أُطَهِّرُ كلَّ شيءٍ

كي أمارسَ ما تباطأَ مِنْ جِرارِ المستحيلْ

ما زلتُ أسألُ كلَّ أهلي:

- كيف لي أنْ أَسْقُفَ البيتَ الجديدَ

وليس لي رؤيا

وجرحيَ غائرُ

-       وكيف لي أنْ أبْتَني للرّيحِ

أشجارًا مُعَلَّقةً على صَدر القصيدةِ

أوْ أروحَ إلى المدينةِ

فاردًا كُلّي

لأهمسَ:

جِئتُ مَحْمولًا على عينِ الحقيقةِ

والوصولُ إليكَ في عمّانَ حِرزٌ

مِنْ تَصَبُّبِ ما يُلاقي الشَّاعرُ

ما زلتُ أَسْتَفتي سبيلي:

     - هل يموتُ أبو علاءٍ

السَّبيلُ إذنْ سَيَفْنى

والوصولُ إليكَ نُولٌ قاصِرُ

 

الآنَ يُرْبِكُني الرَّدى

فأعودُ نحو الوحي أسْتَرعي انتباهي

ها هُنا كُنّا نُمارسُ خِفَّةَ الألفاظِ، نمحوها

إذا طَرَأَتْ على جَسَدٍ بِدائيٍّ

ونسترُ عُريَها

كُنَّا نقيسُ مسافةَ الجيلينِ بالنَّردِ الذي

يصطادُ ما يأوي إليهِ العابرونَ

نقولُ: نخلعُ كلَّ شيء

كي نمارسَ طُهْرَنا

والآنَ مَنْ سَيُزَوِّجُ النَّخلَ الذي سَيطيرُ

مِنْ جَبَلِ الفَراغِ

إلى فَراغِ مدينةٍ لمْ تنتظرْ

لِيَمُرَّ سُكّانُ الضَّواحي

والآنَ مَنْ سَيُصَبِّرُ الصُّورَ الجريئةَ

وهيَ تذوي في ذيولِ الهامشِ الرَّعويِّ

مَنْ سَيُمَرِّنُ المعنى

على لُغةِ الأضاحي

والآنَ مَنْ سَيُقيمُ للناياتِ بعضَ حنينها

لولادةٍ تحتاجُ أنْ تنمو

لِتَرْتقَ ما تَفَتَّقَ مِنْ أنينِ هوائها

فجرًا، ويحفظُ سِرَّنا؟!

الآنَ يُرْبِكُني الرَّدى

فأصيرُ مُنْقَسِمًا على صَبري

وأنا الذي ما كان يُرْبِكُني

ظِلالُ الموتِ

أعرفُ أنَّ ضافيةَ السُّؤالِ عَنِ الرَّحيلِ

قلائدٌ في جِيدِ هذا السنديانْ

لِكُلِّ سَاقيةٍ حَصى

ولِكُلِّ يومٍ مَشْرِقٌ

ولِكُلِّ نجمٍ مَغْرِبُ

فأموجُ، أستقوي على نفْسي

وأنسى أنني أبكي

فأبكي: يا سَماءُ تَمَهَّلي

ما زالَ في عينيَّ دَمْعٌ صَيِّبُ!

أبكي لأدفعَ عِهْنَ هذا اليومِ

أستقوي على كأسي

لأشربَ حانةَ المعنى بكاملها

وأرجعَ للذي فَرَطَ الحنينَ على سواعدِنا

لِتَخْضَرَّ الجهاتُ

هذا أنا الماشي إلى عينِ الحقيقةِ

والزمانِ الكُحْلِ

والميعادِ

والرؤيا

إذا استندَتْ على مَتْنِ القصيدةِ مُهرةٌ

وَخَطَفْتُها مِنْ جِيرةِ الوادي

إذا اخْتُصِرَتْ حياةُ

هذا أنا

أرثيكَ

أمْ أبكيكَ

أمْ أبكي حدودَ الصَّبرِ

مَوْئِلَ غُرّتي للبَوْحِ

هل يكفي المدينةَ مِنْ سِراجِ الشِّعْرِ

ما آنستُهُ في الظلِّ

إذ تركتْ يداكَ على الجُسورِ حمامةً للحلْمِ

أم يكفي لِأُنْجِزَ عَنْ يدي

ما يُثْقِلُ الأيامَ لو خَفَقَ العُراةُ؟

 

أصطادُ نفْسي

كي تُقَابِلَ رُمْحَها

وتدور في بستانِها الأصفرْ

أحتاجُ مِزلاجًا

لأَنْقُلَ خطوتي في البحرِ

أوْ وترًا

لأعزفَ جملةً منسيّةً

يا وعدَنا الأخضرْ

يَتَدَفَّقٌ الأبديُّ في ثوبي

لأرحلَ حيث أنتَ الآنَ مَحْمولًا

على الأكتافِ، حولكَ صُورةُ الماضي

وتِبْيانُ الشُّروحِ على مُتونِ العُمْرِ

هذا النَّقْصُ في الأشياءِ صُورتنا

وهذا صَدْرُنا الضَّافي على لُغةٍ تقولُ:

عليَّ دارتْ سُنبلاتُ القمحِ

وانحرفتْ أيائلُ عَنْ زوابعِها التي في البالِ

هل في البالِ من مُلْكِ اليمينِ

تشرُّدُ الأسماءِ؟!

يا أسماءُ دُلّيني على رَسْمي الخفيِّ

ومنْ جِهاتيَ كلِّها

لِأَزُورُهُ في زيِّهِ الأنْضَرْ

ولعبد الله

ما خَلَقَ الإلهُ من البَصيرةِ

كان يُبْصِرُ أكثرَ الأشياءِ توريَةً

ويهزأُ بالمدى

إذ نَقْبضُ التُّفاحَ بين جَريدتينِ

وكان يأْنَفُ أنْ نُصالحَ ظاهرَ الأشياءِ

كان يقولُ: مَوْطننا الغوايةُ

فانظروا حِلَقَ الخيالِ

ولعبد الله

أسبابٌ إذا ما أُوْسِعَتْ عَيناهُ

إيقاع العُبور إلى الدَّفائنِ

كان يُبْصرُنا

نزقزقُ كالعصافير التي هجرتْ رياشَ الماءِ

كان يُحوِّلُ المعنى إلى خاماتهِ الأولى

يقولُ: إذا بَصُرْتُمْ بالذُّهولِ

فتلكَ آيتُكمْ فخوضوا في التَّوَجُّسِ

لا أَبًا لكمُ

ولا حَدٌّ يُجاري الماءَ

أو يَسْتَنْبِتُ المعنى

إذا مُزِجَ الجَلالُ مَعَ الجَمالِ

ولعبد الله

أوقاتٌ يُؤثِّثُ في مراياها سَماءً

يَعْجنُ المبنيَّ للمجهولِ

والمجهولَ للماضي

ويشحنُهُ على مَهَلٍ

ليغرقَ في الْمُضارعِ

نحنُ نُوْزِرُ كلَّ ما تَلِدُ النِّساءُ

وَنُوْزِرُ الشَّاةَ القريبةَ مِنْ مراعي الخوفِ

كان يؤثِّثُ الصُّورَ الجريئةَ

بالخروجِ على القبيلةِ

ثمّ يُنْشِئها على الأنثى

ولا يرجو الوِصالَ مَعَ الجِدالِ

وكان يُوْلِمُ لي

وأنا أَهلُّ عليهِ في وقتِ الصّباحِ

صباحِ الأشهرِ الملأى بِنَعْناعٍ وشاي

ويقولُ: هاتوا كأسَهُ حُلْوًا

لِيَعْزِفَ ناي

ويصيرُ أنْ ألهو بِمَكْتَبِهِ

إذا ما حَلَّ ضَيْفٌ آخرُ،

وأنا، يقولُ: لكَ المنازلُ كلُّها

فافْرِدْ جناحَكَ في رؤاي

فأميلُ نحو سكينةٍ

لِأَلُمَّ عَنْ وجَعي أناي

كم كان ذلك فائِضًا عَنْ رحلةٍ

في سَهْلِ حورانَ الغنيِّ بِفَقْرِهِ

نحوَ اصْطِلاءِ الرِّيحِ

بالنَّفَسِ القريبِ من المدينةِ

يا مدينةُ شَبِّهي لُغتي

بِمَزْمورٍ سِواي

 

الماءُ يُكنزُ في خطاي

وأنا لديَّ مرارةٌ تُفْشي بأسرارِ اللهيبِ

أَئِنُّ مِنْ وقْعِ السَّوادِ على رضاي

فيقومُ يَجْلبُ لي أراجيحَ القصيدةِ

كَوِّرِي أحلامَهُ

ليزورَني

لَمّا أُوَقِّعُ يا أناي

ما ظلَّ مِنْ سُبُلي وأيامي

ومِنْ خَفْضِ الجَناحِ على صَداي!

ما زلتُ أَذْكُرُ

قال لي وَتَري الذي غيّبْتُهُ

معْ صَدمةِ التاريخ:

هل إبريقُ مائِكَ في يدي

أمْ في ضبابِ سَحابةٍ

سَتَحُطُّ حتمًا في دمي

مِنْ سَقْطِ ما حَلَجَتْ يداي؟!

 

نَهْرانِ مِنْ حَبَقٍ

وروحٌ وارِفةْ

ويدانِ تَصْطَحِبانِ أوراقي إلى عمّانَ

أَذْكُرُ أنني أَتَهَيَّبُ الملكوتَ

حين أَزُجُّهُ في دورةِ التَّكوينِ

عبدُ اللهِ هيَّأ لي طريقًا للخلاصِ من الشَّتاتِ

ومِنْ حياةٍ نازفةْ

وأقامَ لي مُدُنًا على سَفحِ الجبالِ

كأنَّهُ

أوْ أنَّهُ اخْتَصَرَ الحياةَ

إلى العُيونِ الراجفةْ

نَهْرانِ مِنْ حَبَقٍ

ومعنى للصَّليلِ إذا انْتَبَهْتُ لداخلِ الأشياءِ

وهيَ تَبُثُّ موجتَها إلى الشُّعراءِ

ينتبهونَ للوعي الذي مرَّ اقترابًا

مِنْ يباس الأرضِ

هذا في القليلِ من الحوارِ

ومِنْ تناسُخِ مُقلتينِ على وجُوبِ الكَفِّ

عَنْ واوِ التَّحَوُّلِ في السِّنينِ الناشفةْ!

وعبدُ الله يخرجُ مِنْ تَغَوُّلِ حِرفةِ الإصغاءِ

يُدلي دلوَهُ

فَتَمُرّ قافيتانِ مِنْ غَيْمٍ

وريحٌ خائفةْ

ليجيءَ مُستندًا على إيقاعِ ذاكرةٍ، يقهقهُ:

سوفَ تنجو مِنْ خَرابِ العالمينَ

ومن قصاصاتِ الخَواءِ

ومِنْ غيومٍ زاحفةْ

وَيَمُدُّ لي حَبلًا على سَطحِ البِنايةِ

لا أرى رَسْمًا على المعنى

سوى أنْ أُفْرِغَ الميقاتَ مِنْ دَمِهِ

وأُنجز سورةَ الرَّضوانِ

الآنَ يُرْبِكُني الرَّدى

فأصيرُ مُنْقَسِمًا على نفْسي

أَتَجْزَعُ

أم تَرى جَسَدَ الغوايةِ

زنزلختَ القادمينَ إلى العَزاءِ

يمارسونَ هواية النسيانِ؟!

الآنَ

ليس

الآنَ

لكنّي سأَصْبِرُ

كي أرى ما يفعلُ الإنسانُ بالإنسانِ!


إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x