تفاصيل غائبة


        إلى عليان قاسم*

أريدُ الرّجوع إلى بذرة الشمسِ
في ساحة المدرسةْ
حيثُ اصطبار الحنينِ على روح هذي البلادِ
فلمْ أجدِ الماءَ في غيمة الرحلةِ المُؤنِسة!!
إذنْ فاستريحي على قبعاتِ الخيالِ
لأنجزَ ما غابَ من وهرةِ المدرسة!!

أراجيحُ كانت هنا
قلتُ للتلِّ: لا زوبعةْ!
سنابلُ في كلّ شبرٍ من الأرضِ
ماءٌ
وإيقاعُ طفلٍ سريع الخطى في المخيم
رهطٌ من الناسِ
والكونِ
والانحباس اللذيذ على شفةٍ
لا تغادرُ أيامنا
والحنينُ إلى السّوقِ
إذ نستعيدُ منَ الورق المُبتلى رسمَهُ
من جديدٍ
إذا فَرغَ العاملونَ على حيّنا
من تراقيعَ في جُدُرٍ مُهملةْ

ولستُ هنا أستعيدُ من البيتِ لفح الشتاتِ
ولكنْ أريدُ إضافة أسرارنا للجهاتِ
لتكشفَ عن سيرة الطفلِ
إذ يرضعُ الغيم من خِرقةِ المقبرة!!
لأبني عليها أسابيع كنا نمارسُ فيها الخروج
إلى السهلِ
يا سهلَ حورانَ هذا أنا
وأخي
والبلادُ القتيلةُ
والجفنُ إذ ينبني وحدهُ من غبارِ السلالةِ
والأتربةْ
وأعلمُ أنّ الجنوحَ إليها
كما الشّعر ما أصعبهْ!!

سأغدو نبياً ليُوْحى إليّ القليلُ
ولو خضتُ بحراً تهالكَ بعد اقتباس الزمانِ
ونحّى دمي عن جمالٍ
تأخّر عن صيغة الفعلِ
كانَ
وكنا
فنحنُ هنا عائدانِ إلى طينِ هذي الشوارع
نبحثُ عن شتلة الرّوحِ في سهل حوران
أو نتلبّس فكرةَ نوحٍ
لنغزوَ آثار رحلتهِ
في قميص المُثنّى
فهل وسوسَ البحرُ للأرضِ:
هذا نبيُ المراحلِ
سوف يقاربُ بين المرايا
ليكشفَ عن لعبة الأشقياء التي أسفرتْ
عن هدوء الأماني؟
وأعلم أنّ الجنوح إليها
كما الشعر ما أصعبهْ!!

سأدخلُ من بابها في ظلالِ الحدوثِ
أو اللاحدوثِ
وأقفز عن شعلة العدْوِ في آخر العمرِ
حتّى إذا وصلَ الماءُ سطح السفينةِ
قلتُ: اخرقوها
نَجَوْنا معاً
من دمارٍ أكيدٍ جثا فوق هذي البداياتِ
قلتُ اخرقوها
فلا البئرُ تُذكي زماني
ولا البحرُ يكمنُ في غيمةٍ
لا نراها سوى مرّتينِ تهزُّ المزاريبَ
والأرضُ عشّاقها نائمون
ولستُ هنا أبتغي من لجوئي إلى الأرضِ
شعراً ونثراً
ولكنْ لأُصلِح دحريجة العاشقينْ

هبطنا على ركبة الحيِّ
حتّى رأينا "جدارا " تحنُّ لآثارِها
فانتبهنا كعصفورةٍ  العشِّ للقشّ
ثمّ انحدرنا إلى ضوء هذا النفقْ
على الطينِ أنْ لا يغادرَ سردَ الحكايةِ
نحن اتكأنا المنافي
لننهرَ أطفالنا
عنْ ولوجِ الغمامِ إذا كان أسودْ
هبطنا إلى البئرِ
في رزمة الشّكِّ عند التقاء الشقيقينِ
هذا حصانٌ أمامي
أمامكَ دحريجةٌ بالأصابعِ مشبوكةٌ
لا وقودَ لها غير ما نجتبيهِ من الرّغبة العارمةْ 
لنلحقَ بالظلّ قبل انقسام الشفقْ
وتلك ذئابٌ
عواءُ المدى شاردٌ في نفقْ
لندخلَ قلتَ
فقلتُ: النهارُ قصيرٌ
لندركَ ما ليس يبدو وجيهاً
فقلتَ: لنكسرَ ما يرصدُ البحرُ في عالَمٍ غامضٍ
أو لنسعى وحيدينِ
حتّى إذا غيضَ جسر الحداةِ على
صفحةٍ من فلقْ
أقمنا أراجيحنا فوق تلّ قديم
لنعصرَ أيامنا الباقياتِ
وبعض حنينِ الهوى للأبد!
وكان لنا أنْ نرى السهلَ يمتدّ
حيناً إلى غربةٍ في البلد
وحيناً إلى سرّ أنشوطةٍ في جسدْ
ولكنّها لعبةُ الحائرينَ الذين أتواْ مسرعينَ
إلى فركة الكعبِ من سهل حورانَ
حتّى القرار المكين المُدلّى من السقفِ
حتى منازل وادي الحمامِ
الحمام الذي في شمالِ المدينةِ
خلف أتونِ الجبال التي تتدلّى إلى القاعِ
قاع ارتباطهما بالحقيقةِ
في قتلِ هذا الفراغ المميتِ
ليربطَ كلٌّ على غفلةِ الأهلِ
سِلْكَ المتاهةِ
هذا الذي قَرَّ يوماً على لعبةِ الذاكرة!

وفي غفلةِ الأمرِ أرجوحةٌ من حديدٍ
تَقَهْقَرَ في باطنِ الأرض
عند استدارةِ هذي الكُرة!
لنخطوْ سويّاً إلى ساحةِ لا يراها سوانا
هنالكَ حيثُ الفنارُ يمارسُ دهشتهُ
وهوَ يقفزُ عن نارهِ المُجتباةِ من الرؤية الثائرة!
وكان لنا أنْ نمارسَ في السهلِ بعض الوداعةِ
حتّى إذا الأهلُ جرّوا علينا السؤالَ
انبطحنا على ضحكةٍ ماكرة!

خليلينِ كنا
وأبيض هذا الحليب الذي كان فينا
قتيل مرارةِ أشواقنا للدروبْ
خليلينِ عُدنا
ولَمّا كبرنا
أتحنا البهاء لأشيائنا والصفاتِ
ولَمْ نعترفْ بالذنوبْ
لأنّا أخذنا الحكايةِ عن ظهرِ رؤيا
وشاهِدُنا كلُّ هذي الحروبْ
وها نحنُ ننصبُ فخّاً لذكرى
وذكرى لجرّ الغيومِ إلى بسطةٍ في المرايا
ونحن على رِسْلنا نتهادى
إلى أنْ يظلّ الهواءُ وفيّاً لبوحٍ جريءٍ

على ظلّ معنى
خطفنا من الكهرباء أسرّتها
ومنَ النرد بعض الحجارةِ حتّى عيون المدد!
وفزنا بأنهارنا العالقاتِ على جفنِ أمّي وأمّكَ
كنّا إذا ما انبطحنا على ضحكةٍ ماكرةْ
نعيشُ المساءَ على لوحةٍ في إطار الحنينِ
إلى اللونِ أسودَ
أحمرَ
أخضرَ
والأبيض الآنَ غضَّ عن السهلِ
أرقمَ شكلَ النوايا
وعاد لسيرتهِ القاهرة!
أتذكُرُ سِلكَ البداياتِ
لَمّا نهرنا الوطاويط عن سقفنا مرّةً
واحتفلنا بشمسِ الشموسِ
هنالكَ إذ عمّموا ظاهرَ النورِ في خيمةٍ
فاشتبكنا مع الحالِ
قلنا لشيخ القبيلةِ: هذا أوانُ الحكايةِ
لا بدّ نفرحُ
والحربُ وزرُ البنفسجِ في دارةِ الموتِ
قلنا سنخرجُ نحو السهولِ المليئةِ بالقمحِ
حتّى إذا فُتحَ السرُّ عن بئر روما
أدرنا إلى القوس معنى الترابط
بين الظلالِ
وبين الضلالِ
وقلنا سنهبطُ من جنيتينِ
ذواتا حنينٍ إلى برتقالةْ!

أتذكُرُ سردَ المخادعِ في آخر التلّ
أو في عيونِ الجبالِ التي أوقفتنا
على رجلٍ ضجّ بالمنتهى
عند وادي الخفرْ

أتذكُرُ سربَ الحساسينِ وهو يميلُ يميناً
ونحنُ نغني له: يا هُدانا الذي جاءَ
من صبوة الخاصرةْ!

أتذكُرُ بنتَ الغزالِ
وحامي الحمى
والركونَ إلى الطينِ في أوّل الحيّ
حيّ الهبوطِ إلى لعبةٍ بالخيوطِ
لنمسك صوتَ الغزالة بنتَ الغزالِ!

أتذكُرُ صوتَ النضال
ودهشة أمّي وأمّك
حين تبوء الجبالُ بعصبتنا الثائرةْ!
أتذكُرُ  ...
هذي مقاليدُنا حين كنّا صغاراً
ولَمّا كبرنا توسّعَ حقلُ الدمارْ!!
فكيف أجوزُ الصراطَ  لأدخلَ هذا المساء
وأبحث عن لعبةٍ الطفلِ في حارةٍ
لَمْ تحافظْ على سلّةِ الجوعِ
والانفتاح على جبهةٍ صابرة!
وكيفُ أرمّمُ حالي وحالَكَ
نحن اللذينِ أصبنا من الوعدِ شبراً
وتهنا لنرجع ثانيةً يا شقيقي
إلى زهرِ رمانةٍ في أعالي الكلامْ

وللأرضِ أنْ تتهيّأ لي
أنا قادمٌ من عُلوِّ المكانِ
إلى ثورةٍ في زجاج الزمان
أنا قادمٌ فافتحوا لي طريق المضيقِ
مَمرَّ المدارسِ
بيت المؤذّنِ
بقالة الأشقر المُرتضى
وملحمةً قرب جامع ناجي المخيمِ
حسبة إربدَ حين أخي كان يمضي
ليقتلَ أسرارهُ الكامنةْ
وافتحوا لي منازلَ أمّ الجميع
أمُّ أحمد كانت هنا آمنةْ*
أتذكُرُ 
كانت تمشّطُنا بالحنينِ
إلى أنْ تقول: أتاكمْ صبيٌّ
وعمرُ الصبيِّ دواليبُ تصعدُ آخرَ ضلعٍ يضجُّ
وصلنا إليهِ
وآخر حيٍّ أدرنا لهُ قلبنا
حين كنا نفرّقُ بين الرمادِ
وبين الظلام!

وافتحوا لي كتاباً قديماً
لأكشفَ عن سردنا
سأقرأُ هذي القصيدةَ ثانيةً
كي أناقشَ بعض المرايا التي ضيّعتها المآسي
وأنهض بالأرجوانِ
لأنّي نسيتُ متونَ الخيامْ
وما زلتُ أتذكُرُ  دحريجةً  يا أخي
والسّلام!!



________
1- شاعر وتشكيلي أردني
2- الحمام والخفر واديان في إربد
3- الأشقر صاحب أقدم بقالة في مخيم إربد
4- أمّ أحمد "آمنة" التي كانت تقوم بعملية توليد نساء المخيم
5- دحريجة لعبة من العاب الطفولة
6- الشيخ ناجي إمام جامع المخيم الكبير


إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x