وأنتَ الآن تعزف ما نريدُ



(1)
هَرِمنا
ولم نصعدْ على درجِ القوافي
كيْ نُؤثثَ بيتناً
ونرى النهارَ بنا بصيرا
ولم نقرأ هواءَ الشعرِ 
في المعنى كثيرا

هرِمنا
زلةٌ للعينِ هذا الانتظارُ
وشرفةٌ للخوفِ
لنْ يبقَى الأبيُّ كما يريدُ الهابطونَ
على سلالمنا أسيرا

هرِمنا
من شِواءِ الصّقر
من تلقينِ موتانا
ومِنْ فجرٍ تأخّرَ في الضحى
أبدَ الحكايةِ
واستقرَّ بنا كسيرا

هرمنا
وكان الصمتُ مشدوداً 
إلى عصب السريرِ
يحاولُ الإنسانُ فكّ الأرضِ عن قَدَمٍ
تغادرُ  فجرها ورصيفها
وتعودُ ليلاً تختفي
ومخافة الموتِ المفاجئ
تحملُ الأطفالَ للتلفازِ
أعرف أنني أوقفتُ مصروفي على لغةِ القصيدةِ
فاستدارَ أبي
وقالَ ليْ: لا تبكِ فالألوانُ واحدةٌ
وعندكَ من دمي وزنٌ
يحاولُ أن يطيرا

أبي
خوفاً عليَّ أطاحَ بالمعنى المراوغِ
واصطفى لي منْ خوفهِ رسلاً
وهيّأني كثيرا
لأدخلَ في المدارسِ خشية الإنفاق
عن سعةٍ أعالج في الطريقِ صدى الحكايةِ
ثمّ أخلعها نفورا

أبي
وارتدَّ عن غاياتهِ
فخسرتُ شيئاً ينبعُ الإيقاعُ منهُ
ولم أفجّرْ رحلتي في الطينِ
لم أصبح كما وعدَ المُغني:
يا أبي ولداً جسورا

هَرِمنا
وسيدة المرايا
كانت الأسماءُ زينتها
وغاليةً إذا نزحتْ غيوم الشرقِ
كانت تهتدي ليد الصغيرِ
تحاورُ  الجيرانَ: ها ولدي 
سيحملُ عشقهُ
وتدبُّ في النسيانِ تذكرةُ المنافي
كي يعاجلها
ويمشي نحو غايتنا سرورا.

وسيدة المرايا لا ترابطُ في الضحى
لدعائها:  كنْ يا بنيَّ على الخطوبِ
كلوحةٍ رزحتْ على الألوانِ
واختطفتْ لموج إطارها صقراً صبورا.

هرمنا
سُنّةُ الأشياء أنْ أمشي
إلى بيتي مساءً
بعد أن أتلو كتاب الفجرِ  في الأسواقِ
أن أبقى على سعة الخيالِ
لهمْ ظهيرا.

هَرِمنا
إنّهُ الخوفُ الذي فرطَ الحكايةَ كلّها
وأتى يعششُ في الجدارِ
إذا خرجنا للتنزهِ في الكلامِ
وفي الحديثِ عن الغوايةِ والكتابةِ
واختلفنا
ثم لم نأتِ على ذِكْرِ الولاةِ
وغرّنا سببٌ قصيرٌ للحياةِ
وراء هذا البابِ
أو طيشٌ أصابَ رواية الطبّالِ
إذ فقأ النهارَ
ولمْ يقمْ من نومهِ
واختارَ أنْ يبقى أجيرا.

هرِمنا
مثلَ نجّارٍ أطاحَ ببابهِ
وخلا إلى بابِ الظلامِ
يُرقّعُ الأسبابَ إذ صدئتْ
ولم يلمسْ فضاءً للحقيقةِ 
منْ لدنْ مفتاحهِ
وسجى ثبورا

هِرمنا
أيّها المعنى كثيرا
فاختلفنا
ثمَّ أفرغنا المرايا من رنين الروحِ
لم نخلد لميقاتِ الخروجِ
وكان لي ولدٌ
فقلتُ أهيئ الأشجارَ للثمر الجديدِ
فصدّني خوفي
ولكنَّ الحقيقةَ أشعلتْ ميقاتها
فغدتْ سعيرا.

هرمنا تحت سقفِ الغيم
واحتجنا إلى العشبِ الأخيرِ
وكان مختلفاً كثيرا

... وتحتَ الدّلفِ
 كان يصوّبُ الكلماتِ شاعرُنا
ولم يفسحْ لثورتهِ مكاناً خلفَ حجم الحرفِ
لكنّ البنفسجَ كان يمتحن الصّقورَ
لهذا " كانَ " فعلٌ ناقصٌ
خرجتْ عليه الكائناتُ
فصارَ للمعنى
إذا اشتدتْ حوادثهُ لغيرِ الأرضِ
يوماً قمطريرا

هرمنا
لا أريدُ من القصائدِ في حدود الأغنياتِ
إذا تبدّل ثوبُها ألقاً
ولكنّي أريدُ من الكتابةِ
فِعْلَ تكوينٍ
يجاري الغيم إذ ينجو من الفوضى أخيرا

(2)
وقامتْ دولتي حجراً على حجرٍ
بباب الصمتِ
مسكوناً بأوعيةِ الخرابِ
وعِلمِ إيقاعٍ من الطبِّ القليلِ
تذكّرَ الإنسانُ في جسدي مراراتِ الهوى
فهوى على رئة الترابِ
وكانَ يحدبُ في تقاسيم المكانِ
إلى  الخروجِ على قوانينِ الولادةِ والخلودِ
وغرّهُ حُلمٌ قصيرٌ تخلُدُ الأشعارُ فيهِ
 يُفجِّر المعنى
ويُشعلهُ حضورا.

(3)
سألقي بالخيامِ على رصيفٍ باذخٍ بالموتِ
أجلو قامة الأشجارِ
والفوضى
وإنْ منحوا عديدَ الخارجينَ على الندى
 زمناً قصيرا
لأرشقَ حالة التذكارِ
لا يتذكرُ الإنسانُ إلا ما وعى
ولهُ سعى
وسعيتُ نحو الأرضِ
كانتْ أمّةُ الأشعارِ نائمةً ومرضى في الخطابِ
وكان لي بيتٌ  قفزتُ على يديهِ
إلى براري الناس
حدّثني أبي عن قريةٍ شُطبتْ
وعنْ صمتٍ من الجيرانِ
لم أفقهْ كثيرا
فعدّلتُ اتجاهي
كي أمارسَ خطوتي
وأعود أرفعها أخيرا.

(4)
بوعزيزي
حصةٌ أولى لهذا الحلمِ
خطَّ على شعابِ الأرضِ
بعض رمادهِ
فغدا منيرا
وكانت جذوة المعنى لديهِ
إذا توارى في ترابِ اللهِ
يبعثُهُ أميرا

بوعزيزي
أوّلُ الإيقاعِ في الوترِ الذي صدقتْ نبوءتُهُ
فلمْ تظهر على الشاشاتِ صورةُ قلبهِ
لكنها شقّتْ صخورا
... ومسّتْ كلَّ أسماءِ المنافي
إنّها أرضُ القوافي
تلكَ لحظتُهُ
وقالَ الحُرُّ في الساحاتِ
في ألق الوضوء
لقد هرمنا نحنُ
واحتجنا لكمْ
منْ أجلِ هذا الدربِ
إذ أضحى عسيرا

بوعزيزي
عاد من غزواتهِ
ليدِ الشعوبِ
وعاد يحملُ كُنهَ هذا الموتِ
_كنْ يا سيّدَ الغزواتِ للمعنى نظيرا

بوعزيزي
عاد من رَحِمِ الولادةِ
في جوارِ النيلِ
واليمن السعيدِ
وبنْغازي
وحاورَ دمعة العشّاقِ في بردى
وعاد لأهلهِ مسرورا.

(5)
ولي من صورةِ الأبوابِ ما يكفي
لأدخلها عزيزاً
.../ حياةٌ لم تكنْ سلوى
لفضّ الروحِ عن خللٍ
وعمّرها الشبابُ وهمْ يمشونَ أسراباً
وأعمارُ الترابِ تصيرُ تحت هتافهمْ
لغرابة الممشى بحورا.

ولي سهرٌ
وأولادٌ يصلونَ العشاءَ
وأغنيات شعَّ فيها الحبُّ بعد غيابهِ
وقلائدُ انتشرتْ على عرض الطريقِ
وخامةٌ للصبرِ، أسماءٌ تُدافعُ عن رؤاها
ثمّ تختبرُ النساءَ إذا فردْنَ حكايةَ الخبّازِ
هل ينشرنَ رائحة الرغيفِ
وينتشينَ بموجةِ المعنى
إذا فطنتْ لموتِ عريسها
الأنثى حبورا؟!

(6)
.../ وعن جهة النهارِ سألتُ معنايَ القديمَ
فدلّني لرفاقنا في الدرسِ
كنا إذ نبيتُ وراءَ أغنيةٍ
نحاورُ أهلنا بالصبرِ
أو نغدو على بُسُطٍ من الأحلامِ
في المنفى طيورا
وإنْ مَرَد الخيالُ على الحقيقةِ
نستعينُ بلوحةِ الفنّانِ
أو لغةٍ من الشعر المُعتّقِ
كي نحثَّ القلبَ: كنْ يا قلبُ للحبِّ مُجيرا.
وإنْ مرّوا على رئة الهواءِ نقيم دولتنا
ونزرعها بخورا
وإنْ صعدوا على أنفاسنا
نمشي إلى أرضِ الغوايةِ كي نجللها بذورا

(7)
تعبْنا، أو هَرِمنا
ولم نشهد لنا سقفاً يُجاري الغيمَ
لم نقطع شواظاً من نحاس الجيلِ
لم نبرقِ لأنثانا لكي تتهيّأَ الحنّا
ولم نشربْ على شرفاتها دِنّاً
فنمنا، أو هَرِمنا
أيّها الزمنُ الجديدُ
وأنت الآن تعزف ما نريدُ
____
بوعزيزي:  شرارة الربيع العربي في تونس

إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x