خيمة عزاء



 
 

تمرّينَ بعد انتهاء العزاءِ

ففي البيتِ، فوق السرير، التفاتةُ

عينٍ ورؤيا

وفي البيتِ ريحٌ مِنَ الذكرياتِ

وفي آخر البيتِ غرفةْ

 

تمرّينَ صدفةْ

فيمحو المكانُ خطاكِ، إذًا،

لا تصُبّي على الوردِ ماءً

ففي الغيبِ بعضُ اصطفاءٍ لحزنٍ عتيقٍ

وفي الغيمِ برقٌ شفيفٌ

لهُ أنْ يمارسَ بعض الهطولِ

إذا جئتِ في آخر النَّعي

والناسُ مثلَ دقيق الكلامِ

يمرّونَ في خيمةٍ للعزاءِ

فعودي إلى البيتِ

في البيت فوق السريرِ مناخٌ

لحلْمٍ

وعِفّةْ

 

هنالكَ في خيمة للعزاءِ

أقمتُ لهُ نعيَهُ

قبل أنْ أستريحَ على باب بيتي

وكنت أعدُّ الكراسي

لأرواح مَنْ يسرقونَ الشقاء

صباحَ

مساءْ

هنالكَ، إذ مرَّ بي جارنا، فالتفتُّ

وقلتُ لهُ: يا سلام الطيورِ

تفتِّشُ عن قمحها

في حنين الرحيل الفجائي

سلام الأيائلِ وهيَ تؤرجِحُ قلبي

تعال لتشرب على البابِ قهوة أمّ البنينَ

فشوَّحَ لي بيديهِ المشقَّقتينِ

سلام الذهابِ إلى السوقِ

يا جارُ، قال، فلوَّحتُ بالرأس

كأنَّ يدي لا تعلِّقُ لي غايةً أنْ أجالسهُ

تحت زيتونة البيت

لا زيتَ في البيتِ

إلا الذي أطفأَ الليلَ

حتى يداعبَ في الليلِ سرَّ الخفاءْ

 

وللسوقِ أسرارهُ

بعد طيّ الشوارعِ في القلبِ

قال: أضاحكُ آخر رمحٍ طويلٍ

يمرُّ أمام يدي

فانقلبتُ مِنَ الضحكِ

أنت العجوز الذي فرَّ قبل قليلٍ مِنَ القِطِّ

وهو يهرولُ خوفَ التباس الخطى بالرصيف

وأنت الذي لَمْ تكد ترتوي مِنْ صلاة السنابل

وهيَ تمرُّ على حَينا

فانْتَبِهْ

إنَّ للسوقِ ميزانهُ باجتذاب العيالِ

وللسوقِ منجى مِنَ الكدِّ والهمِّ

هل فارقتكَ الغزالةُ

قال: انْتَبِهْ

إنني بعضُ روحكَ

تلكَ المساحةُ فارغةٌ

والشوارعُ ضيّقةٌ

فانتبهْ لطنين الغبارْ

قال، ثمّ استدارَ إلى شارع السينما

 

اتَّفقنا على لغةٍ في الوليمةِ

حرف انسجامٍ مع الضوءِ في ليلةٍ

كان فيها صدى النائحاتِ يولولُ     

ماتَ الذي لَمْ يطأْ سلَّةَ الشائعاتِ

وكان إذا ما اختلفنا

يُعدُّ لنا الشايَ أخضرَ

ثُمّ يجُرُّ الربابةَ مِنْ صدرها

باتجاهِ الحنينِ إلى الذكرياتْ

وكان يرى عقربًا للنهايةِ

والماء مِنْ غيمةِ الجارياتِ الجميلاتِ في البحر

هل أنت مثلي سريعَ التهافتِ؟، قالَ

فقلتُ، ولَمْ ألمحِ الكأسَ في الكأسِ،

بعضُ انتشارٍ لعطرِ الجميلاتِ في الكأسِ

شبهُ منازلَ واضحةٍ

بعض هذي الوجوهِ التي في الخرافةِ

حيث تقول الخرافةُ: إنَّ الضّباعَ أتتْ عنوةً

في الطريقِ إلى الحيِّ

هذا الذي كان يمشي بهِ صاحبي

قبل ستينَ عامًا

ولَمْ يقفلِ البابَ

لَمْ يلتجئْ مثلنا للنهارِ

ففي الليلِ صورتُهُ الواثقةْ

 

وليس ارتهانًا لِدَيْنٍ عتيقٍ

هوَ الآنَ يدخلُ في النصّ، قال:

إذا ما التقينا نوزِّعُ حلوى

فقلتُ: على كلِّ بيتٍ تُكسِّرُهُ النائباتُ

أو البيتُ ترملُ فيهِ الأراملُ

والخُلَّصُ المارقونَ أعدّوا لنا شأننا، فانتبهنا

ولَمْ ينتبهْ صاحبي لحرير الكتابةِ

قلتُ، وأوجسَ في نفسهِ خيفةً:     

لا رياحَ لِنَجوى

 

ونحن نجالسُ أسرابَ نملٍ

وتضحكُ، مرَّ الفتى القرويُّ

استدرنا إلى لغةٍ غير معلومةٍ في الحديثِ

ولَمْ يكُ قد بَلَغَ الحُلُمَ

وانصاع للحدْسِ

جفَّتْ دوالي العروقِ

ففي حارة اللاجئينَ بقايا مِنَ الأرضِ

أقصدُ حفنةَ ريح الترابِ

فقلتُ: تعال هنا

فاستدار كما نحن كنّا استدرنا

ولَمْ يبلغ الأبيضَ الفجَّ فوق السطوحْ

- إلى أينْ تذهبْ؟

- إلى غابةٍ في الخيالِ

وأسطورةٍ في المثالِ

فقلتُ: وهل تغضبُ الميثولوجيا

إذا ما انسحبنا إلى البيتِ ليلًا؟

ترجَّلَ عن حنكةِ العارفينَ

ومرَّ على جذعِ زيتونةٍ لم تَعُدْ

سيرةً للخصام المبينْ!

ولوَّحَ لي بيدينِ مُشقَّقتينِ

أراك ضحى

وارتقى صاحبي خيمتينِ مباركتينِ

النساءُ يُهدهدنَ ريح انكسار الطفولةِ

والعابرونَ السبيلَ يُنادَوْنَ مِنْ كلّ بابْ

فكيف، إذًا، سوف تأتي إلى بيت هذا العزاء

وفي البيتِ عينُ القوافي تكرُّ على بابهِ

بعد كلِّ انزلاقٍ

وفي البيتِ بعضُ الحنينِ

إلى كلِّ نقصٍ عظيمْ

يطوفونَ بالبيتِ، إذ يضحكونَ

وينسحلونَ إلى قبلةٍ بالحديثِ

أرى أنهمْ لنْ يجرّوا النساءَ

إلى سيرةِ النصفِ مِنْ شهر آبْ

 هنالكَ حيث العزاء توارى بِكُمّ القميصِ

فلَمْ يرقصوا

كان رقصُ الفناجينِ أعلى مِنَ الصَّخَب المُكْفَهرِّ

الكهولةُ ضاقتْ بهمْ

والمؤذّنُ نادى إلى رئةٍ في الفلاحِ

فهسهسَ طيرٌ على رأسِ هذا الجدارْ

 لقد عدَّلوا طاقة الحزنِ، وانسربوا

نحو ما لا يمرُّ بحلْقِ الصغير الذي

مرَّ حتى ينظِّفَ قلبَ الخرابْ

ولكنّهم أوغلوا بالسَّرابْ

فعاد الصغيرُ بفنجانهِ

والسلامُ يدورُ على كلّ شخصٍ

وفي الحلْقِ ما لا يواريهِ حُسْنُ التعامُلِ بالمفردات

وفي البيتِ، حصرًا على الكائناتِ،

يرى أختهُ

وهيَ تسعى إلى صورةٍ في الجدارِ

أبي إنَّ أمّي لها عدَّةً

فلماذا تطيح النساءُ بأحزانها؟

ولماذا يمازحْنها بالقليل مِنَ الذكرياتْ؟

تُراكِ نسيتِ نهار الغوايةِ في اللائذاتْ

وبعضَ الحمامِ الذي حطَّ فوق النوافذِ

والماءَ إذ جاس مجرى التخيُّلِ

ثمَّ إذا ما التقى العابرونَ بأسرارها

في الغواياتِ

بعد انحدار السهولِ شمالًا

وقالوا: الحديقةُ إثمٌّ تباطأَ في العمرِ

غرَّبَ سرب الحمامِ إلى بيتها في المساءِ

وقصَّ على النائمينَ رياش الحقيقةِ

إذ تحملُ الريحُ أشجانها

أبي كيف لمْ تتخذ من صدى الريح قمصانها

لتبقى مرايا الغمام على الأهلِ (حصرًا)،

وتبقى الحكاياتُ مطويةً في ثياب العزاءْ

 

بكائيةٌ هذه الملحمةْ

وليس لجاري سوى أنْ يرى كأسَهُ

قابَ ليلٍ قريبٍ

على خُضرةٍ صار فيها اصفرارُ الحياة مديحًا

لأبنائهِ العابرينَ إلى البيتِ

إذ لا يقولُ الصغيرُ له:

أين مفتاحُ هذي الحقيبةْ

كعادتهِ

حين كان إذا ما استراحَ ينادي عليهِ

إذا ما رأى أنّهُ يهبطُ القارعاتِ بطيئًا

ليجلسَ فوق المِنصّةِ

للبيتِ خمسُ منصّاتِ ذكرى

ينادي عليهِ أبي

صدَأٌ في الليالي

ونزفٌ أمام البيوتِ الغريبةْ!

ولكنهُ موغلٌ بالحياةِ

ومتَّسِعٌ للمماتِ الأخيرِ

إذا ما رأى صورةً للعزاءْ الأخيرِ!

وكان إذا ما تحمّس ولّى إلى البيتِ

يُنجي الأراملَ من غلظةٍ في قلوب النساءِ

إذا ما اجتمعنَ على سيرةٍ في الخيالِ

أقمنَ الذنوبَ على البابِ نسيًا

زخارفَ ريشِ المرايا

وكسّرنَ حقل العزيزِ بنقص الأصابعِ

-أبي لا تطاوعْ دموعي

ففي الليلِ بعضُ اقتفاء لمولى الحكايةِ

نزفٌ غريبٌ

ولكنهُ عابرٌ للنجاةِ

وفي الصبرِ أعمارُنا يا أبي

-لا تطاوعْ دموعي

ففي البيتِ في آخر البيتِ غرفةْ

وفي البيتِ شرفةْ

وفي البيتِ بعد انتهاء العزاءِ

مدارُ الألمْ

 

سيلعبُ بعضُ العواذلِ بالنردِ

ينقسمونَ إلى فئتينِ

واركستا عن يمينٍ

ولم تشهدا ميلَ هذي الجنازةِ للسوقِ

كان أبي لا يُداري إذا ما انحنى

طائرٌ لرياش العدمْ!

كان يغضبُ حتى تبينَ النواجِذُ

يغضبُ من أجلها، يا أبي لو ترى حالَنا

إذ نغازلُ طيفَ النساءِ

إذا ما مررنَ على السوقِ، نغلقُ بابَ التجارةِ

ثمّ نقهقهُ أعلى من الريح

إذ هيَ تصخبُ في وجهنا يا أبي

والقوافي هنا زوجةٌ للندمْ!

 

وتسيرُ الجنازةُ

لا شيء يمشي معي

غير أنّ المخيّمَ أبدى حضورًا كثيفًا

لتعبرَ هذي الصلاةُ إلى بارئ الكونِ

قال الذي عندهُ عِلْمُ باب الحنينِ

جثا مكفهرًّا على ركبتيهِ

إذ انتابهُ من غموض المشاعرِ ما لا يطيقُ

وأوغل بالسعي بين المراعي، ليلعبْ!

 

وتسيرُ الجنازةُ مِنْ بيتنا في الظهيرةِ

نحو اقتناص المدار مِنَ الشمس

كانت تسيرُ، وخلف الأيائلِ ذئبٌ شريدٌ

وعَقْربْ

 

كأنَّ مدى الركضِ أشجارُ سرْوٍ

وأشجارُ كينيا

كأنَّ العزاءَ الذي أقفلتْهُ المرايا

توارى أمام هَبوبِ الجلاوزةِ القادمينَ مِنَ الشرقِ

لا تنزعجْ أيها البحرُ

كانت تسيرُ الجنازةُ من بابِ حارتنا

نحو تخوم الحنين!!

 

أقلّ الموائدِ محجوبةٌ عن تعاليمهِ

إذ تقامُ الموزينُ قِسطًا على الناسِ

والناس مرضى بوَهْمِ الحياةْ

يطوفونَ بالبيتِ إذ يضحكونَ

وإذ ينتهي مِنْ غسيلِ الفناجينِ، يأوي

إلى ركنِ أحزانهِ

ثُمَّ يبكي، ولكنَّهُ

         لا ينامْ!!


إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x