إربد القديمة: سنرجع يوماً إلى حيّنا




   إربد، مدينة السهول، أو عروس الشمال، أو الأقحوانة، أو المدينة الريفية، أسماء، أو صفات، أو ثياب من سندس الوفاء، جميعها تقع على سنابل سهل حوران، امتداداً من لغة القلب، وحتى أعالي أشجار التين والزيتون، هذه هي إربد التي فجّرت ينابيع الإبداع من حكمتها وحكمة مبدعيها في ستينيات القرن الماضي وسعبينياته، وقبل ذلك بكثير،، فتألق الشاعر، واسترسل القاص، وضارع التشكيلي قوس قزح، وماثل الروائي تفاصيل الكائنات وأمكنتها، وقارع المسرحي شخوص الأزقة، وانتبه الناقد لغواية الكلمة، ونهض المؤرّخ بالأحياء الترابيين، وفُتحت الشوارع ليعبر الحالمون، وأضاءت الحكايات منازلها وأروقة بيوتاتها الأثرية، غير أنّها تباطأت، أو خلدتْ إلى نفسها، ربما لالتقاط الأنفاس، أو لأسباب خارجة عن إرادتها، تباطأت في تسعينيات القرن الماضي، ولا يزال التداعي يجثو بركبته على جسدها الأخضر الحوراني، بل اختفت ملامحها، وغابت أعراسها الثقافية المبتكرة، ونقص أوكسجين الحياة في عروق أرصفتها، وساحاتها، ومؤسساتها الثقافية.
   بين الأمس والحاضر ثمّة فروق، ثمة شروخ، ثمة كسل من نوع لم تألفه طيور إربد وضواحيها، ثمة انقطاع عن الماضي، الماضي القريب، وكأننا مع لعبة الانقطاع عن الماضي، نتحصّل على فرصة اللحاق بركب المعاصرة.
   إربد إذن تودّعُ أوكسجينها الذي كان يمرّ في المساحات الواسعة، ويتابع ضيقَ الدروب وأنفاسها، ليمدّها بالحياة، وتشرع الآن الأوردة لثاني أكسيد الكربون الذي كان يتصاعد من حرجٍ إلى بنايات غير آهلة، بنايات لا أساس لها، إربد إذن محميّة الروح، فمن يحميها من صدأ الجهات؟!، ومن تأكسد الخلايا، من يقيها عثراتِ أبنائها الذين استرسلوا بقصّ شريط الماضي، ونكران صوره الناصعة؟، من يعيد لها دواوينها وجلاسها، من يعيد ساحة أفراحها، من يعيد لها أسواقها القديمة، من يعيد لها سورها القديم، والمسجد المملوكي وكنيسة الروم الأرثوذكس، وفندق الملك غازي، ودور النابلسي، وعبد الله الجودة، ومنزل شاعر الأردن ” عرار”، سوق الصاغة القديم، بيت أبو رجيع، عمارة محمود جمعة، قصر الملكة مصباح، خان حدو، مقام الشيخ خليل التميمي، نزل غزالة، وبرج المراقبة، ومطحنة الملقي أهم مركز اقتصادي في المدينة القديمة.
   مؤلم أن تمرّ أمام هذه الأيقونات التي تشكّل منها فضاء إربد، فترى جحود أهلها، وهي تستغيث بهم لإنقاذ ما تبقى، ولإتاحة المجال أمام صهيل خيولها القادم من ذاكرة الحجارة البازلتية، أو خاناتها التي أصبحت موئلاً للهوام والنفايات، أو واجهاتها التي شرخها اعتباطية الإنسان، مؤلم أن تمرّ أمامها، ولا تلقي تحية الصباح والمساء على حساسينها التي تعشش في ثقوباتها، راسخة رغم البلل الذي يصيب قشّها المفتول بإتقان، مؤلم أن تمرّ أمامها، ولا تتذكر تاريخاً حاكته أيدي الأجداد، مؤلم أن تمرّ عليها ولا يشنّف أذنك رفيف الوتر، وجنون الربابة، ومؤلم أن تمرّ في أزقتها ولا تقبض على السجل الشعبي للشاعر مصطفى السكران.
   أيُّ فتنةٍ هذه التي حاقتْ بنوافذ الحياة، وأرعدتْ في سلّة التين، وخفّضتْ من أعالي الشجر، أيّ موجة قهر تلوك لحمَ القابضين على ما تبقى من أرخبيلات في بحر الإبداع، وأيّ سيّارة ستجيءُ لتلتقط الحكمة من هذا الجبِّ، وأيّ قميص سيعيدُ للأعمى بصره وبصيرته.
   إربد كانت تشكّلُ أبناءها على هيئتها، فهل يستمطرون تربتها من جديد؟، هي لم تغب، رغم غياب ملامحها، ولكنهم غابوا، هي لم تغادر نفسها، ولكنهم غادروا، هي لن تغادر مسرح الصناعة حاضن البدايات المسرحية في الأردن، ومدرسة كامل حسن الصباح ” أديسون الشرق”، هي لن تردم نفق الديكابولس، أطول نفق في العالم تم اكتشافه مؤخرا شمال الاردن ويبلغ طوله (140) كم، وكان يستخدم لنقل المياه ما بين مدن اردنية وسورية في العهد الروماني، هي لن تخبّىء وجهها الذي كحّلتهُ سرايا الأقحوان في سهولها وجبالها، ولن تقطع الطريق أمام عشّاقها الذين خلوا إلى أنفسهم لحظة على تلّها القديم، كي يعودوا أكثر بهاءً، وهي لن تفسح المجال أمام الطحالب لتتسلّق سورها القديم الذي منحته الحياة القدرة على تحدي عوامل القهر والانحطاط، وهي بالتأكيد ستغني معنا كما قال الشاعر هارون هاشم رشيد:
سنرجع يوماً إلى حينا
ونغرق في دافئات المنى
سنرجع مهما يمر الزمان
وتنأى المسافات ما بيننا
فيا قلب مهلاً ولا ترتمي
على درب عودتنا موهنا.




إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x